نحن نكتسب مهارة الكذب في الصغر. يتوقف هروبنا من مواجهة العقاب من الكبار على قدرتنا على الكذب بطريقة جيدة، من هنا يتم صقل مهارات الكذب لدينا. على الرغم من ذلك، البشر دائمًا بحاجة لطرق فعّالة لكشف الكذب في المقابل؛ سيكون ذلك حيويًا بالنسبة للأقسام الشرطية لكشف أسرار الجرائم، وفي المطارات لمحاولة كشف نوايا المسافرين عبر الدول كذلك.
طور البشر طرقًا في العقود الأخيرة لكشف الكذب والخداع المتعمد. هذه الطرق كانت تعتمد على إشارات معينة يقوم بها الشخص وكان يُعتقد إنها تشي بنواياه المخادعة، تلك الإشارات تسمى لغة الجسد. تقنية لغة الجسد تعتمد بالأساس على قدرة المراقب على ملاحظة بعض الإشارات البسيطة على الكذب مثل التوتر عند ذكر كلمات معينة، أو حركات لا إرادية يقوم بها الأشخاص حال تعمدهم قول غير الحقيقة، كذلك التعرق أو الهروب من عين المراقب.
المثال الأشهر لهذه الطريقة كان الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» عندما سئل عما إذا كان أقام علاقة مع «مونيكا» أم لا، وقد بدأ يتحسس أنفه وهو ينكر ما حدث بالكامل. اعتبرت هذه الحركة دليلًا حقيقيًّا على كذب الرئيس الأمريكي وقتها.
لغة الجسد تكذب أحيانًا!
بمرور الوقت، تظهر دراسات أكثر تؤكد عدم فعالية الطريقة التقليدية في كشف الكذب، فلغة الجسد تكذب أحيانًا، حتى عندما يكون الراصد من المختصين في كشف علامات الكذب مثل رجال الشرطة ورجال التحري فإن الأمر لا يكون حاسمًا. أثبتت دراسة أنه عندما يتم اعتماد هذه الطريقة لكشف الكذب فإن الأمور تشبه إلى حد كبير إلقاء حجر نرد على الأرض، فكل الاحتمالات تكون واردة، كما أن المتخصصين في كشف الكذب مثل رجال التحري يسجلون نفس نسب الفشل مثل بقية الأفراد العاديين في هذه المهمة.
المشكلة التي تواجه هذه الطرق التقليدية هي أن البشر يمتلكون طيفًا واسعًا من السلوكيات، والتي لا يعبر أحدها عن نفس رد الفعل لدى جميع الأشخاص، فمثال الرئيس الأمريكي كلينتون قد يكون زائفًا تمامًا مع شخص آخر اعتاد أن يلمس نفسه أثناء الحديث بشكل تلقائي، من هنا تكون محاولة تنميط أشكال معينة من السلوك في قوالب معاني محددة خاطئة، ذلك أنه لا يوجد قاموس كوني للغة الجسد.
حقيقة انتشار الكذب طيلة مراحل تطور البشر لم تكسبنا القدرة على كشف الخداع أو التمييز بين الأشخاص الصادقين وغير الصادقين. يميل البشر إلى الاعتقاد بأن الأشخاص الآخرين صادقون. اكتسب البشر في المقابل مهارة التعرف على الحقائق باعتبارها غير خادعة أكثر من الأكاذيب باعتبارها خادعة. أجريت تجربة لمحاولة اكتشاف قدرة الشخص العادي على اكتشاف الكذب وكانت النتيجة في المجمل نجاح الشخص في اكتشاف الكذب بنسبة 55%، وهي النسبة القريبة من النسبة التي نتوقعها عندما نرمي عملة معدنية ونتوقع الوجه الذي ستسقط عليه.
في محاولة أخرى لتحري هذه المهارة، قام عالمان بتحليل 108 دراسة من دراسات كشف الخداع في العام 2006 ليتوصلا إلى أن قدرة الشخص على اكتشاف الخداع والكذب لا يمكن التنبؤ بها اعتمادَا على معايير الثقة أو الخبرة أو التعليم أو التخصص في كشف الكذب (رجال التحريات). يبدو أننا جميعًا على قدم المساواة عندما نتحدث عن الفشل في كشف الكذب.
تجربة مختلفة وأمل جديد
كان «توماس أرميرود» الأستاذ في جامعة سوسكس وفريقه من ضباط الشرطة أمام مهمة تكاد تكون مستحيلة؛ هذه المهمة تتمثل في مقابلة العديد من الأشخاص في مطارات مختلفة حول أوروبا ومحاولة الكشف عن تاريخهم وخططهم ونواياهم للسفر. زرع أرميرود مجموعة من الأشخاص المسافرين بتاريخ ونوايا سفر مزيفة، وكان على فريقه تحديد هؤلاء الأشخاص بين آلاف المسافرين. سيكون هناك شخص واحد من بين كل ألف مسافر يتعمد خداع فريق الدكتور أرميرود، هكذا ستكون مهمة تحديد هذا الشخص أمرًا شديد الصعوبة.
بدلًا من محاولة مراقبة الإشارات الحركية الغريبة، أو محاولة استقراء لغة الجسد، حاول فريق أرميرود سلوك طريقة مختلفة، وتمكنوا بالفعل من التعرف على المسافرين أصحاب التواريخ والنوايا المزيفة في معظم الحالات. طريقتهم التي ابتكرها أرميرود تعتمد بالأساس على إطلاق العديد من الإشارات الكاشفة للكذب والخداع، ثم تنفيذ تقنيات جديدة في اصطياد الخداع والكذب.
ظهرت الطريقة التي اعتمدها أرميرود في الوقت الذي فشلت فيه كل البروتوكولات التقليدية في محاولة كشف الكذب، حتى في المواقف التي يكون كشف الكذب والخداع فيها أمرًا حيويًا. اعتمدت فكرة أرميرود ببساطة على تحويل الراصد من لغة الجسد وحركات الجسم، إلى ما يقوله الشخص فعليًا، ومحاولة التقاط نقاط الضعف بالحديث لجعل الشخص الكاذب ينهار أمام الحقيقة.
اشترك أرميرود، وزميله داندو من جامعة ولفرهامبتون، في تحديد مبادئ المحادثة التي من شأنها أن تزيد من فرص كشف الكذب.
كيف تصطاد كاذبًا؟
استخدام الأسئلة المفتوحة
المبدأ الأول لأرميرود وداندو يتمثل في استخدام سلاح الأسئلة المفتوحة. من شأن هذه التقنية إجبار الشخص على توسيع شبكة الكذب الخاصة به، مع إضفاء الكثير من الأكاذيب الصغيرة المرتجلة والتي يمكن أن ينسى تفاصيلها حتى قبل أن ينتهي من الحديث، فتكون هذه التقنية بمثابة الحصار الذي يحيط به الشخص الكاذب نفسه.
وظف عنصر المفاجأة
الفكرة الثانية التي يقترحها الثنائي هي استخدام توظيف عنصر المفاجأة. تقوم هذه الفكرة على زيادة الضغط على المخزون المعرفي للشخص الكذاب، مثل طرح أسئلة غير متوقعة قد تساهم في إرباكه واختبار مدى اعتماده على معلومات حقيقية يستطيع الخروج بها من ضغط الشخص الراصد، يمكن تطبيق هذه الفكرة أيضًا من خلال مطالبته بذكر تفاصيل بسيطة وهامشية كانوا قد ذكروها سلفًا. كل تلك النماذج قد تجعل من الحفاظ على النسق المخادع لدى الشخص الكاذب أمرًا شديد الصعوبة.
راقب التفاصيل الصغيرة القابلة للتحقق منها
أيضًا من الطرق المؤثرة لكشف الخداع، مراقبة التفاصيل الصغيرة التي يمكن التحقق منها بسهولة. في وسط النقاش قد يذكر الشخص أنه ذهب إلى الجامعة في يوم محدد، هنا يمكن أن تطلب منه الحديث عن تفاصيل هذا اليوم ومحاولة رصد الأحداث التي يمكن أن يكون لها رواة آخرون. الشيء المهم هنا، أنه في حالة ملاحظتك لتناقض ما، لا توقف الشخص الكاذب عن مواصلة الحديث، في المقابل دع ثقته في نفسه تكون السلاح الذي يطعن به مصداقيته بأن تسمح له بخلق المزيد من الأحداث المزيفة من أجل أن تبدو كذبته طبيعية وقابلة للتصديق.
لاحظ التغير في مستوى الثقة
أحد أهم الملاحظات التي قدمها أرميرود وزميله أيضًا هي ملاحظة التغير في مستوى الثقة. سيكون على الشخص الملاحظ هنا مراقبة مدى تمسك الكاذب برواياته وثقته أثناء حديثه عنها خصوصًا عندما يتم تحديه. يسهب الشخص الكاذب في حديثه عندما يشعر أنه يقود الحوار، يقل هذا الشعور المريح لديهم عندما يشعرون بأنهم يفقدون السيطرة على مجريات الحديث، وأن مواقف القوة تنتقل لشخص آخر؛ هنا تبدأ مستويات الثقة لديهم في التذبذب، ويجب على الملاحظ إدراك ذلك.
ترسم هذه الفكرة حدودًا جديدة للمحادثات التي يكون هدفها اكتشاف الخداع، فبدلًا من الطريقة التقليدية التي تكون في هيئة استجواب، يفضل أرميرود أن يكون الأمر وكأنه محادثة عادية بين ندين متساويين. في هذه الحالة، ومع القليل من الضغط، يسحب الشخص الكاذب نفسه بعيدًا عن سياق قصته الأصلية وربما يتناقض من تلقاء نفسه مع روايته الأساسية، أو من خلال التحول لطريق المراوغات للهروب من الضغط. هنا يصبح المفتاح هو التقاط هذه اللحظات التي تهتز فيها ثقة الكاذب أو يبدو فيها وكأنه فقد السياق الرئيس لروايته وبدأ يصنع تناقضاته الخاصة.
الإفلات من عقوبة الغش أصبح أكثر صعوبة
بالعودة إلى تجربة أرميرود، بعدما أعد الفريق مجموعة من المسافرين أصحاب التواريخ المزيفة، مع وثائق سفر وتذاكر حقيقية، وحصلوا على أسبوع كامل لإعداد قصتهم المزيفة، وأقحموا وسط مسافرين حقيقيين في مطارات مختلفة حول أوروبا. أثبتت التجربة نجاح استراتيجية أرميرود وداندو، حيث نجح الضباط المدربين على هذه التقنية في الكشف عن الأشخاص أصحاب التواريخ المزيفة في 70% من الحالات، وهي نسبة النجاح التي تفوق نسب نجاح التقنيات التقليدية مثل مراقبة لغة الجسد بـ20 مرة.
الأمر الذي يرفع من أهمية هذه الدراسة هو أنها أجريت بالفعل على أشخاص حقيقيين في وظائف حقيقية بمطارات مختلفة حول العالم، يقول «تيموثي ليفين» أستاذ ورئيس قسم دراسات التواصل بجامعة ألاباما في برمنجهام: «الأمر مدهش حقًا.. من المهم أنهم أجروا التجربة في مطارات حقيقية. إنها الدراسة الأكثر واقعية».
ليفين بدوره كانت له إسهامات في نفس الاتجاه الذي تقدم فيه أرميرود. يعتقد ليفين أيضًا أن المقابلات الناجحة لكشف الكذب يجب أن تعتمد على كشف ثغرات حديث الكاذب، بدلًا من التركيز على لغة الجسد وإشارات الوجه. صمم ليفين تجربته الخاصة للتأكد من فعالية تقنيته الخاصة. كانت تجربته على هيئة لعبة، يشارك فيها الطلاب في أزواج من أجل الفوز بمبلغ خمسة دولارات لكل إجابة صحيحة يدلون بها.
لا يعلم الطلاب أن زملاءهم في التجربة ممثلون محترفون، وعندما يغادر الشخص الذي يدير اللعبة الغرفة بشكل مؤقت؛ كان الممثلون يطلبون من زملائهم النظر في ورقة الإجابة لمحاولة الغش والحصول على الإجابة. مجموعة من الطلاب وافقوا بالفعل على هذا التصرف.
بعد ذلك، استجوب عملاء فيدراليون حقيقيون مجموعة الطلاب الذين خاضوا التجربة محاولين معرفة إذا كانوا قد قاموا بالغش أم لا. وباستخدام تقنية ليفين التي تعتمد على الأسئلة التكتيكية دون الالتفات للغة الجسد والإشارات، تمكن العملاء الفيدراليون من العثور على الطلاب الذين قاموا بالغش بنسبة دقة تصل إلى 90%. أحد العملاء الفيدراليين كانت نسبته هي النجاح الكامل بنسبة 100%. دراسة مكملة استُبدل فيها أشخاص عاديون بالعملاء الفيدراليين، وكانت نسبة نجاحهم في تحديد الطلاب الذين قاموا بالغش 80% عندما استخدموا نفس التقنية.
نحن صادقون حقًا.. كيف نكذب الآن؟
الإضافة الحقيقية التي قدمها ليفين كانت بسيطة جدًا، غير أنها كانت فعالة للغاية. تمثلت هذه الإضافة في افتتاح المحادثة بسؤال الطلاب بشكل ودي عما إذا كانوا صادقين وأمناء أم لا. هذا السؤال يجعلهم يؤكدون على أنهم أشخاص صادقون. وهو الأمر الذي سيجعلهم أكثر صراحة فيما بعد، يقول ليفين: «الناس يريدون أن يؤمنوا بأنهم صادقون، وهذا يدفعهم للالتزام بالتعاون. حتى الأشخاص الذين كانوا يكذبون، تظاهروا بصعوبة بأنهم متعاونون بعد هذا السؤال. هذا الأمر يجعلك أكثر قدرة على اكتشاف من يزيف وصفه بالصدق».
قد تشترك التجربتان في كونهما أجريتا في مواقف يكون الفاعل فيها غالبًا شخصًا محترفًا يستطيع تطبيق المبادئ بسهولة وفاعلية، لكن تطبيق التجارب على المزيد من الشرائح وأن يكون الراصد فيها من الأشخاص العاديين وفي مواقف مختلفة؛ سيجعل ذلك هذه المبادئ ناجحة في المواقف والبيئات والظروف المختلفة. يتمنى أرميرود وليفين، رغم نجاحهما الكبير، أن يقوم باحثون في مؤسسات مختلفة بتطبيق وتوسيع مبادئهما لجعلها صالحة في المواقف المختلفة.
يؤمن كذلك أرميرود أن هذه المبادئ يمكن تطبيقها من الأشخاص العاديين في المواقف اليومية لكشف الخداع والكذب، يقول: «أقوم بذلك مع الأطفال طيلة الوقت» وينصح كذلك بالانفتاح على قصص الأشخاص والصبر دون التسرع في تكوين وجهات النظر وإصدار الأحكام المبكرة. بهذه الأفكار سيكون من السهل الحصول على نقاشات صالحة وصادقة، كما سيمنحنا ذلك ميزة اكتشاف الخداع والكذب في المواقف اليومية، وكذلك في المهمات الرسمية.