تأخذنا رواية “البيت الأزرق” للشاعر عبده وازن إلى لعبة سردية متقنة تدين السجن العربي بوصفه مكانا معاديا/ مستشفيات الأمراض العصبية، ولإدانة الشخصية العربية المُستلبة بوجهها العدمي، ووجهها الأضحوي، والتي يقترح لها المؤلف السردي (مجهول الاسم) أو عبر أقنعته المتعددة مصائر تتوزع بين القتل والنفي و”الموت الرحيم” أو عبر المحو من ذاكرة الكمبيوتر.
شخصيتان متماهيتان
الرواية، الصادرة بالاشتراك بين منشورات ضفاف والاختلاف في بيروت- الجزائر، تطرح فكرتها بوصفها رواية شخصيات، وأنّ محنة هذه الشخصيات تستبطن فاعلية الروي من خلال التعرّف على محنة الواقع والذات، إذ تعيش عبره استلابات السياسة وتشوهاتها، ورعب الجسد وإقصاءه، وخواء المعنى وسط خواء الوجود، فجوليت البطلة الروائية الحائرة، تشاطر مؤلفها المجهول حيرة البحث عن المصير، الذي يبدو أكثر وضوحا مع شخصية السجين بول، والمتورط في جريمة لم يرتكبها، إذ يضعه المؤلف في سياق الضحية، مثلما يضعه في سياق مواجهة غير عقلانية مع العالم/ السجن، حيث العجز واللاجدوى، والعبث والاستسلام للانتحار عدما وجوعا وهزالا.
توظيف ثيمة “المخطوطة” كتقانة أسلوبية للما بعد سردي، يُعطي حرية للمؤلف ليثبت فعل الإيهام بالسرد، والتعاطي مع الشخصيات من منطلق أنّ اغترابها في السرد هو قريب من كونه معادلا بنائيا لاغترابها في الواقع، ولكي تبدو “وثيقة بول” كأنها رواية أخرى للضحية التي ترصد ما يجري حولها.
مثل بول كانت شخصية جوليت التي يتخلى المؤلف عن موتها السردي، ليضعها في سياق المخطوطة ذاتها، حيث يكون موتها/ انتحارها المُفترض ليس بعيدا عن موت بول، بوصفهما شخصيتين تعيشان رعب الواقع، وتتماهيان مع قناع الضحية العربية عبر رمزيتها الأقلوية/ المسيحية، وعبر سجنها العبثي، وعبر طبيعة ما تعيشه في المنافي الداخلية/ السجون، تلك التي تشبه سجون العقاب التي تحدّث عنها ميشيل فوكو.
اختيار المؤلف لشخصيات محددة ومرسومة تضع قارئها أمام لعبة توظيف الرمز، وتمثلات الشخصية الروائية لهذا الرمز، فبول شخصية إشكالية تعيش رهاب فقدها وهواجس تحولات وعيها، إذ فقد أمّه مبكرا، وفقد أباه المهاجر إلى أستراليا، كانا مثل فقْده لمعنى وجوده، إذ لا يجد في علاقته مع خالته، أو مع الأب ألبير أية لذة للإشباع والمعرفة، لأنها علاقة غير مكتملة في الأولى، وعلاقة منحرفة وذات حمولات إيروسية في الثانية، ولعل نزوعه نحو الفلسفة المشائية كان الأكثر تمثيلا لعلاقته مع العالم، ولرغبته في الخلاص، فيجوب الأمكنة المسيحية حصرا، ويتوقف عن الكلام احتجاجا على وجوده الفاقد للمعنى، وحتى نهايته/ انتحاره بالصمت والجوع في سجن البيت الأزرق لا تبدو سوى أنها تماهٍ مع هذا الخيار الوجودي/ الفلسفي الطهراني.
أما شخصية جوليت المرأة الأربعينية فتعيش رهاب الفقد أيضا، لتجد في خيار الموت الافتراضي تمثيلا لفكرة الموت الموازي عند شخصية بول، حيث كلاهما يعكسان وعي المؤلف لمحنة الفقد، بوصفه الوجودي أو الجنسوي، فهي تفقد حبيبها الخائن، مثلما تفقد القدرة على كتابة حكايتها، لتترك مصيرها بين يدي المؤلف الذي يُخضعها للموت/ المحو على شاشة الكمبيوتر، وكأنه يقترح عبر هذا الموت مبنى إطاريا للشخصية العربية التي تواجه محنة وجودها إزاء رهابات القمع والإقصاء التي تفرضها سلطة “البيت الأزرق” بوصفها عتبة الخلاص والموت والاعتراف.
طبيعة الشخصية المأزومة في الرواية تقترح عددا من الرواة لسيرتها، إذ يتقصّون يومياتها، وتحولاتها، ويكشفون عن شفرة محنتها، فهذه الشخصية/ الشخصيات مسيحية دائما، وإنّ انهيارها يرتبط بالفقد الوجودي والهوياتي من جانب، مثلما يرتبط بنوع من العبث الكاموي الذي يقودها إلى مصير مجهول، مثل لحظة وجود بول عند جثة النادلة سامية المطعونة بسكينة غامضة.
وتعدد الرواة لا يعني وجود أصوات متعددة كما في الرواية البوليفونية، بقدر ما يبدو كأنّ هناك راوياً واحدا هو المؤلف ذاته، والذي يصطنع له عبر تقانة الأقنعة أصواتا متعددة لها سردياتها الداخلية، ولها ساردوها المثقفون، بوصفهم الأكثر وعيا بفلسفة الاغتراب الذي تعيش رهابه الشخصية/ الضحية وضياعها؛ بول، جوليت، جورج المتحوّل جنسيا، العشيقة المقطوعة الثديين، غادة حبيبة بول، سامية بائعة الهوى الفلسطينة.
مدونة السارد الداخلي تعني في جوهرها مدونة المؤلف ذاتها، فعبر تقانة رواية المحقق البوليسي يوظّف صاحب “قلب مفتوح” المبنى الإطاري لمدوناته السردية لغرض تتبع شخصياته، وللحفر في عوالمها، ومعرفة خفاياها وأسرار تحولاتها النفسية والثقافية والدينية، إذ يجد في شخصية بول أندراوس تمثلاته لمقاربة سرديات الشخصية المتخيلة، تلك التي يختلط فيها أنموذج الأبله عند دستوفسكي، مع شخصية المجذوب العرفاني، مع المشّاء الأرسطي، مع شخصية المعطوب جنسيا كما يراه فرويد.
هذه التقانة تصطنع لها عوالم ومواقف يختلط فيها السيرذاتي مع التبئير الداخلي، عبر ما ترصده عين المؤلف الذي يحدس بالعالم الذي يحوطه، والذي تتفجر أزماته عبر لعبة “وعيه الشقي” وهو يحدس بتلك الأزمات الوجودية، والتي تضطرب فيها الهويات الجنسية للشخصيات، من خلال تشوه علاقاتها العاطفية، أو من خلال محنتها وهي تعاني اغترابها وهواجس نكوصاتها وإحباطاتها في التعبير عن وجودها وعن حضورها.
السجن في رواية عبده وازن هو فضاء سردي لشخصيات مأزومة، مُحبطة، تعيش فيه أوهامها الداخلية، مثلما تكشف من خلاله أوهام انكسارها الوجودي، وإخصائها الإيروسي والتعبيري والهوياتي، وهذا ما يجعل الرواية بدءا من العنونة “البيت الأزرق” بصيغته المعلومة أكثر تمثّلا للمفارقات والنقائض التي تعيشها تلك الشخصيات، إذ تعيش فقدها وعجزها، وبحثها الغرائبي عن الخلاص.
وبقدر هيمنة النزعة المسيحانية في النظر إلى مفاهيم الخلاص والاعتراف والتطهير، فإنها تتكشّف أيضا على عالم سري، غامض، قد يكون هو عالمنا أو سجننا، حيث تتحوّل ثيمة الفقد من صيغتها التعبيرية والنفسية إلى مستواها القيمي، فالسجن/ البيت الأزرق هو مكان للإخصاء، والعجز، والسجين المثقف والأصولي يختلط مع السجين القاتل والقوّاد والمنحرف، وهذه “الخلطة” هي المعادل التكويني للواقع/ السجن الكبير الذي تعيش رهابه الشخصية العربية، بوصفها شخصية تعيش كل إحباطات وتشوهات الضحية، ضحية العبث واللاجدوى والعجز والبحث عن المعنى…