لعلنا نتذكر جميعا أن الحديث ظل جاريا منذ أمد بعيد عن ضرورة تغيير نشيدنا الوطني حتى ينسجم مع التحولات الكبرى التي جرت في بلادنا وفي العالم خلال العقود الستة الماضية من عمر دولتنا الفتية. وقد أصغت السلطة الوطنية في نطاق إعادة التأسيس والبناء التي تضطلع بها منذ انتفاضة أغسطس 05 لذلك الحديث فتبنت مطلب تغيير النشيد وأدرجته في لائحة القضايا الوطنية الكبرى التي انعقد حولها إجماع أطياف واسعة وفاعلة من المهتمين
بالشأن الوطني العام وتخلف عنها بعض؛ وذلك في حوار واسع وصريح وحر دام نحو ثلاثة أسابيع.
وبعد نجاح الحوار، وتزكية الشعب لنتائجه في استفتاء عام، شكلت الحكومة لجنة واسعة ضمت كفاءات من الناشطين في حقول الأدب والسياسة والاجتماع، بغية اختيار نص النشيد. وقد أنجزت تلك اللجنة عملها بنجاح، واختارت النص التالي:
بلادَ الأُبَاةِ الهُدَاةِ الكِرامْ ** وحِصْنَ الكِتابِ الذي لا يُضَامْ
أيا مَوْرتانِ رَبيعَ الوئامْ ** ورُكْنَ السَّماحةِ ثَغْرَ السلامْ
سنَحْمي حِماك، ونحن فداكِ ** ونَكْسُو رُبَاكِ بِلَوْنِ الأَمَلْ
وعــــند نـــــِداكِ نُلَــبِّي: أجَلْ
وقد كان من المفترض أن تتم هذه العملية بسهولة وهدوء متناهيين مثلما جرى حين قيام الدولة الموريتانية، وما يجري في مختلف الدول الديمقراطية المتحضرة، بدل أن نجعل منها فتنة أو نجعلها “بقرة بني إسرائيل”. ذلك أن المسألة برمتها لا تعدو كون السلطة المختصة في المجال قد قامت بواجبها ومارست حقا مخولا لها بموجب القانون.
ولكن هيهات.
لقد أقام طيف من كتابنا وشعرائنا القيامة حول هذا النشيد الوليد، فتحاملوا عليه وصوبوا نحوه ونحو لجنته سهام النقد الهدام والتجريح المغرض من كل حدب وصوب، وقالوا فيه نثرا وشعرا و… ما لم يقله مالك في الخمر؛ محاولين بذلك إزهاقه ووأده.
وعلى الرغم من ابتعاد جل ما قد قيل في هذا الموضوع عن الفنية والموضوعية واتصافه بالتسييس وعدم التأسيس ودخوله في أغراض الحملة “الربيعية” الظالمة التي تخاض منذ نحو عقد من الزمن ضد التجربة الوطنية الرائدة في موريتانيا، فإن بعضه يستوجب الملاحظات التوضيحية التالية:
1. أن الأناشيد الوطنية للدول لا يكتبها شعراؤها الكبار، ولا تعكس بالضرورة مستوى ازدهار الشعر والفكر في تلك الدول، وإن كان لذلك أثره الخلفي الخفي في القيم التي تتغنى بها تلك الأناشيد، ولا تتخذ عن طريق الاستفتاء؛ بل تتبع فيها آليات أخرى. ولو كان الأمر غير ذلك لكان نشيد مصر إحدى روائع شوقي أو حافظ أو البارودي أو الجارم أو محمود طه أو إبراهيم ناجي، ولكان نشيد العراق ملحمة من ملاحم الزهاوي أو الرصافي أو الجواهري أو عبد الرزاق عبد الواحد، ولكان نشيد سوريا مئذنة أو وردة أو غيمة لنزار قباني، ونشيد لبنان أيقونة من أيقونات جبران أو إيليا أبي ماضي أو الأخطل الصغير، ونشيد تونس إرادة الحياة للشابي أو بني وطني لعبد المجيد بن جدو، ولما كان نشيد فرنسا ترانيم متطوع مرسيلي بدلا من أن يكون من شعر هيغو أو لافونتين، ونشيد الصين من نظم شاعر فرنسي مهزوم. فالأمر إذن أكثر تعقيدا وبساطة في آن واحد مما يظن بعض المتحجرين.
2. أن الدور الذي لعبه نشيد “كن للإله ناصرا” في دولة الرئيس المختار ولد داداه الناشئة من جمع للكلمة على التوحيد ونبذ للبدع والمناكر وتمسك بالسنة الغراء سوف يلعبه النشيد الجديد في الجمهورية الجديدة مضيفا إلى تلك القيم النبيلة قيم ومعاني: الوطنية الموريتانية وروح الإباء والفداء والوحدة والسلام والوئام والتسامح ومقاومة العدو والعمل والأمل التي يزخر بها ويثيرها وينشرها في النفوس الصحيحة.
3. أن النشيد الجديد خلافا لما يظنه البعض سوف ينمو ويزهر ويثمر في أفنان وآفاق: الاستقلال والحرية من هيمنة الاستعمار والصهيونية ومن ذل التبعية للحيران، ورحاب الحريات الوارفة التي لا يقيدها سوى فساد المفسدين وضلال المستهترين، وخمائل العناية بالشعب وخلق مستقبله الواعد، وما سوى ذلك ليس إلا وهما وسرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
4. وإذا كان من نقص أو برودة، فليس مرده إلى ما تخيله بعضنا من تخاذل أفراد اللجنة لأنهم منتدبون “من طرف رئيس فمه أحمر من التنكيت على الشعراء والنيل منهم والتجاوز في حقهم”.
بل مرده – إن وجد- إلى تخاذل بعض القوى السياسية التي تفترض فيها الوطنية ودعم الإصلاح، وزيغها عن أن تكون رافدا من روافد الوحدة الوطنية، وكون أفواه بعض الأدباء محمرة من ذم رئيس دولتهم وكل ذنبه أنه أراد لموريتانيا العزة والكرامة ولشعبها الرخاء، وسعى إلى نقلها إلى مصاف الحداثة والعمل والأمل بدل الخمول والبكاء على الأطلال. أولا يحق للجنة النشيد أن تنشد في وجوه منتقديها قول دريد:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت، ولكن الرماح أجرت؟
في المجتمعات المتخلفة قد تكسب البلاغة الإنشائية جولة على حساب الواقع، لكنها سرعان ما تتبخر وتندثر في مواجهة عناده الذي لا يلين.. وتلك سنة الكون: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
5. وزيادة على هذا وذاك فإن من الواقعية والموضوعية والإنصاف معرفة أن أناشيد الدول أناشيد للسلطة الحاكمة وليست للأفراد والشعوب. ورئيس السلطة الحاكمة في بلادنا اليوم ليس ثوريا ولا إسلاميا ولا بعثيا ولا شيوعيا؛ بل هو وطني إصلاحي وسطي مثل الرئيس المختار ولد داداه تماما. ومن الظلم والمثالية أن يتصور كل حزب أو حلف أن يتبنى الرئيس سياساته ويتخذ النشيد الذي يروق له.
6. هذا عموما. ومن حيث الخصوص، فإن ملاحظات ملموسة تقدم بها أحد الأدباء تستوجب ما يلي:
* إنه ينعي على النص افتقاره “إلى وحدة موضوعية” هو أول الشاهدين له بها حين يقول إنه “بإمكان كل شخص أن يغير من ترتيب أشطاره وأبياته كيف شاء دون أن يتغير شيء” فهل توجد وحدة موضوعية أقوى وأعمق من ذلك؟
* وأنه يفتقر “إلى البعد التخييلي الذي هو جوهر الشعر”. وعلى الرغم من عدم إلزام البعد التخييلي في الأناشيد وتحبيذ المباشرة والبساطة فيها، فإني أسأل إلى أي بعد ينتمي هذان المقطعان:
بدور سمائك لم تحجب ** وشمس جبينك لم تغرب
نماك الأماجد من يعرب ** لإفريقيا المنبع الأعذب
قفونا الرسول بنهج سما ** إلى سدرة المجد فوق السما
حجزنا الثريا لنا سلما ** رسمنا هنالك حد الحمـى
* أن النص اعتمد تراكيب ضعيفة لا تدل على حضور الذائقة الأدبية. ولكن الأمثلة التي سيقت على ذلك لا تدل إلا على عكسه.
* كما لا تدل عبارة “نلبي أجل” على التعسف في الصياغة. فقد قالها كثيرون نذكر منهم الأستاذ أحمد ولد ممون في نشيده الذي لحنه وغناه الأستاذ محمد شين ولد محمادُ في نهاية الستينيات “إذا الشعب قال يقول: أجل”.
* أما ما ذكر عن الآية الكريمة، وعن يعرب، وعن “أسارى هواك” فيفتقر إلى التوضيح حتى لا يكون نقدا من أجل النقد، وحتى يخرج من شك طلاسم أبي ماضي.
* ومن المآخذ كذلك ما ذكر من عدم وضوح الغرض من ذكر شطر “ونكسو رباك بلون الأمل” مرتين للمتلقي. وهذا أمر غريب جدا أن يعاب على نشيد أن تكون له لازمة تتكرر بين فقراته وفي ختامه. فالنقاط الواردة بين الفقرات إشارة إلى تكرار اللازمة.