لهذه الأسباب أحببت أن أكون موريتانيا

0
311

لم أزل منذ فترات الشباب الأولى -وأنا في المشرق العربي- أسمع عن أرض شنقيط والشناقطة ، وأقرأ في كتب التاريخ الإسلامي عن ما يمتاز به العلماء في هذه البلاد من الحفظ والتعمق في الدراسات الفقهية واللغوية ، رغم قساوة الظروف واضطراب الأوضاع السياسية والاجتماعية قبل قيام الدولة الموريتانية الحديثة.
ومع أننا في المشرق لم يصلنا إلا القليل من الثروة العلمية لأعلام هذه البلاد لشح وسائل التواصل والاتصال  بين طرفي الوطن العربي في تلك الفترة ، فإن بعض عباقرة شنقيط الوافدين إلى المشرق تركوا بصمات شنقيطية بارزة على صفحات التاريخ وحملوا رسائل حافلة بالعبر والمشاهد المؤثرة عن تلك البلاد.
وقد اكتشفت فيما بعد أن ما نشاهد ونسمع من آثار الشناقطة وتاريخ شنقيط أكثر بكثير من المكتوب والمقروء ، فلا تزال شنقيط تحتفظ بكنز عظيم من الذخائر والآثار لم يجد طريقه إلى النشر حتى الآن ، فضلا عن ما لم تضل إليه حفريات البحث التي بدأت تتحرك بوتيرة أسرع خلال العقد الأخير .
كنت في تلك الفترة التي هي ربيع العمر منشغلا بجمع وتحقيق تراث المذهب المالكي مغمورا بين خزائنه مفتونا بضنائنه ، لا أترك مظنة ولا مئنة لمخطوط من هذا التراث إلا رميت فيها بعزمي وألقيت فيها بنفسي رغم ما يحتف ببعضها من مخاطر ، لكنني أنشد دائما قول الشاعر
إن كان سفك دمي أقصى [مرادهم]   فما غلت نظرةٌ منكم بسفك دمي  .
إلى أن وفق الله بمنه وكرمه إلى إخراج مجموعة لا باس بها من نوادر هذا التراث لقدماء المؤلفين في المذهب المالكي ولمن بعدهم من المتأخرين.
وفي تتبعي لمراحل تطور هذا المذهب أدركت أنه ولد في دار الهجرة ، ونشأ في الديار المصرية ، وعاش فترة ذهبية في الفردوس المفقود (الأندلس) ، واستقر في بلاد المغرب العربي التي احتنضته ودافعت عنه ونبذت ما سواه، ورأت في وسطيته خير منهج للحكامة الرشيدة والعيش الكريم بعيدا عن ويلات التطرف والغلو .
وقد حظيتُ أثناء عملي هذا بالاطلاع على أعمال قيمة لأساتذة شناقطة أفذاذ في مجال خدمة التراث المالكي ؛ كالدكتور محمد الأمين ولد محمد سالم ولد الشيخ (وزير الثقافة الموريتاني الحالي) في تحقيقه لتهذيب البرادعي ، ورسالته المتعلقة بقاعدة مراعاة الخلاف،  والدكتور يحي ولد البراء في تحقيقه للنظم المتعلق بالكتب المعتمدة في المذهب المالكي وغيرهما.
فأثار ما اطلعت عليه كامن الشوق القديم إلى هذه البلاد، فعقدت العزم على الرحلة إليها لمطالعة خزائنها ومثافنة شيوخها ومباحثة أساتذتها.
فحقق الله تلك الأمنية إذ حططت الرحل في تلك البلاد الطيبة قبل ما يربو على عشر سنين ، وأول ما لفت نظري عند القدوم هو المظاهر الإسلامية الحية التي تبنيها وتحميها الدولة على مختلف الأصعدة ، فاستبشرت خيرا بأن المناخ الفكري والثقافي ملائم لبناء جسر تواصل علمي بين أبناء شنقيط وأشقائهم في أنحاء الوطن العربي.
رأيت تناغما سحريا خلّابا بين المجتمع وقادته وحكامه في الفكر والعمل والبناء.
رأيت كيف تكون حكمة القادة مصدر رقي فكري وأخلاقي للشعوب يقود إلى السلم ويوطد أركان الاستقرار.
لقيت مجموعة من الأساتذة الباحثين وتشرفت بلقاء بعض المسؤولين وتيامنت بمجالسة بعض الشيوخ وزرت بعض المراكز العلمية والتراثية ، فكان كل ذلك قوة دافعة أضافت إلى عزيمتي شحنة إضافية من الطاقة للمزيد من خدمة التراث المالكي.
لقد شاهدت بعيني رأسي مظاهر البراعة الفائقة في الحفظ والتحقيق العلمي لطلبة العلم الذين ولدوا وعاشوا بين أكناف المؤسسات العلمية في الشرق الموريتاني ، حيث توجد المعالم التراثية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي.
كما تشرفت بالجلوس بين يدي حذاق العلماء المتفننين المنحدرين من منطقة الوسط والجنوب الغربي الموريتاني ، ولا أنسى ذلك اليوم الذي استلمت فيه من يدي العلامة الشيخ محمد فال بن عبد الله الشنقيطي النسخة الأصلية الوحيدة في العالم حسب علمي من أحكام عبد الملك بن حبيب المالكي وكانت الصورة التي أخذت منها ثانية نسخة في العالم ، وقد قمت بتحقيق الكتاب ووضعه على طريق النشر وهو ما تم بالفعل.
كانت هذه الفترة أروع أيام عمري وأكثرها عطاءً وتميزا حيث قمت بالإشراف المباشر على عدة ورشات علمية يعمل فيها علماء وفنيون موريتانيون على تحقيق التراث الشنقيطي والإسلامي بصفة عامة ، وتم منذ ذلك الوقت نشر ما يزيد على ستين كتابا من التراث الشنقيطي في علوم القرآن والسنة والفقه واللغة والأدب ، ومن بينها أقدم تفسير شنقيطي لكتاب الله وأول مجموعة تضم نوازل علماء شناقطة، وأولى مدونات التراجم التي تتضمن علماء هذه البلاد وما جاورها ، على اختلاف في طريقة النشر والإصدار بين ما نعمل على إخراجه بتمويل من الناشرين الشناقطة وما نتولى تمويل طباعته وإخراجه في نفس الوقت.
ولا زلنا نطمح إلى توطيد الصلة لتحقيق مزيد من المكاسب داخل هذا الوطن الحبيب بحيث يكون التراث الشنقيطي شنقيطيا صُنعا وصياغةً ونشرا لطلبة العلم الشناقطة أولا ، ولا يبقى لعبة بيد طلبة المكاسب المادية الخارجية.
لقد وجدت في هذه البلاد أذهانا ثاقبة لفهم مستغلقات التراث
وآذانا مصغية لاستغاثة مجامعه
وأخلاقا عالية تجعل التعامل أحسن ما يكون.
لهذه الأسباب أحببت أن أكون موريتانيا…وما زلت أرجو أن أكون موريتانيا

د.أحمد عبد الكريم نجيب