في كل مرة أعود فيها إلى مسقط رأسي ، وبينما أنا أشق طريقي عبر جبل »واو« ، أشاهد في الأفق وسط الغيوم المتناثرة ذلك المشهد الذي لا يفارق مخيلتي وعقلي لقلب مثلث الفقر مدينة امبود، حيث تبدوا وكأنها معلقة بين السماء والأرض، عن يمينها وعلى طول مد البصر حوالي 2 مليار متر مكب من المياه خلف سد فم لكليته مع آلاف الهكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة، وعن شمالها مئات تجمعات »آدواب« الذين يعيشون حياة عصور ما قبل التاريخ.
رغم بشاعة مشهد لوحة المفارقات هذه، الذي يتضح كلما صعدة إلى القمة، إلا أنه يبقى شاهدا حيا على مقبرة جماعية لأناس دفنوا أحياء تحت انقاض السياسات التنموية الفاشلة، وربما بفعل السياسات الهادفة.
واقع الحال المر هذا الذي لا يغادرني، و يطاردني أينما حللت وارتحلت، ويحملني على أن أبحر في مرارة أحلامي
، ليبدأ ناقوس الخطر يدق هواجسي، لأجدني استيقظت فجأة من أحلام يقظتي وأنا أتساءل : ما ذا لو اختفى شعب لحراطين العظيم من موريتانيا ؟
ماذا إذا أصبحنا ووجدنا شعب » لحراطين « العظيم قد تبخر؟ بالتأكيد سيتأثر كل شيء في ربوع هذا المنكب القصي. والبداية ستكون من الحدود- جندي استطلاع يصيح : في ميكروفون لاسلكي قائدي قائدي إبلاغ : أرى أربعة سيارات رباعية الدفع تتحرك بسرعة فائقة صوبنا. القائد : اطلق صفارة الإنذار،ولنستعد لمواجهتهم. قائدي لا أحد في الثكنة، الجنود كلهم تبخروا. القائد متسائلا وهو يردد وينفذ في جهة السيارات » وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ«،ما ذا بمقدور قائد بدون جند أن يفعل؟
تتسارع الأحداث، وتتوالى الأخبار- آلاف الحيوانات بدأت تنفق من العطش حول الآبار و» الحسيان«، وآلاف أخرى ضلت طريقها، وربما قطعت الحدود إلى مالي أوالسنغال، وآلاف من الأسر تنتظر الموت بعد ما أصبحت عاجزة عن تلبية متطلبات حياتها اليومية في البوادي والقفار بعد ما غادر الرجال في رحلتي الشتاء والصيف » لعزيب« وتركوا ورائهم شرفهم وأبنائهم وبناتهم أمانة في عنق من هي أهلا لها، ألا وهي » الحرطانية « الأمينة. هذا حال الأرياف. فماذا عن المدينة؟
سيدة من » تفرق زين« بعد ليلة طويلة في غرفة نوم إيطالية مكيفة، ومعقمة ضد جميع أنواع الحشرات والبعوض تستيقظ، وتنادي : بصوت خافت يا »امبيريكَ«، اخرجي هذا الطفل من هنا، وغيري حفاضته
يا»مسعود« ، اذهب إلى السوق وآتنا غداءنا بسرعة، لا أحد يجيب، وبعد ساعة تخرج السيدة من غرفة نومها، وهي تهز أردافا ثقالا مثل دب يخرج من سباته الشتوي، وبضغطة زرّ واحدة على جهاز التحكم عن بعد للتلفاز تبدأ نشرة أخبار الظهيرة، وإليكم عناوينها الرئيسية : توقف حركة النقل العمومي في شوارع أنواكشوط، أنواكشوط اليوم بدون لحم، تكدس البواخر في ميناء الصداقة، آلاف المسافرين عالقين على طريق الأمل، أسوق الداخل الموريتاني بلا مواد غذائية، ولا سلع استهلاكية، حي الدار البيضاء يتبخر، وتوقعات بأن يتراجع عدد سكان موريتانيا بنسبة 60 بالمائة، تغلق المسكينة التلفاز، وتستسلم لقدرها. ما السبب في كل هذا؟ بكل بساطة » لحراطين« اختفوا.
وبينما أنا أحاول استجلاء حقيقة أحلامي، أدركت وبما لا يدع مجالا للشك أن هذا الشعب العظيم رغم القرون العجاف، حيث الجهل والتجهيل، والفقر والإفقار، والحرمان لا يزال هو هو رافعة موريتانيا الخالدة. فماذا لو أصبح كله شعبا متعلما؟ يا ترى كيف ستكون موريتانيا إذا لم يبقى فيها جاهل واحد ؟ ورغم ذلك يبقوا هم أيقونة مورريتانيا بل موريتانياهم، وإن لم يكن هم فمن؟
بدون شك في التعليم تكمن الأزمة والحل معا لمشكلة شعب» لحراطين« ،فبدون تحقيق تكافؤ الفرص في التعليم، وحصولهم فردا فردا على حقهم في التعلم، وإصلاح نظام التعليم الحالي الذي يكرس التقسيمة الشرائحية الأفقية للمجتمع لن تنتهي محنتهم، وربما تتطور إلى ماهو أخطر من النظام الطبقي، وحتى أخطر من نظام العبودية البائد. ماذا لو تحول شعب بأكمله إلى ما سماه الكاتب الإسرائيلي البروفيسور يوفال نوح هراري في كتابه ( A Brief History of Tomorrow ) طبقة ” useless class of humans” طبقة عديمي الفائدة الذين هم شريحة تحت العبيد، على الأقل في العصورالغابرة كان للعبيد حينها قيمة اقتصادية أو عسكرية أستعبدوا من أجلها، وعبودية تلك العصور رغم فداحتها تبقى أفضل بكثير من أمية القرن الحادي والعشرين.