تابعت أكثر من فيلم وثائقي وملف صحفي عن العالم النووي الباكستاني “عبد القدير خان” الذي يوصف بأنه “أبو القنبلة النووية الباكستانية”، وتراوحت تلك الملفات والأفلام الوثائقية بين تقديم الرجل كبطل قومي خدم بلده وارتقى به إلى مصاف النادي النووي العالمي، وبين من يصفه بالمجرم المرتزق، ويتهمه ببيع أسرار نووية خطيرة، والمتاجرة بها والتربح بعائداتها غير الشرعية دون حسيب أو رقيب.
غير أن تلك الأفلام والتحقيقات، أغفلت شطرا مهما من حياة الرجل العملية ومسيرته الغامضة، يتعلق بزياراته المتكررة لمدينة تمبكتو وصحراء أزواد في شمال مالي، التي كان يتردد عليها خلال الفترة ما بين عامي 1998 و2002، حيث زارها عدة مرات خلال تلك الفترة، وأقام فيها أياما وليالي اكتنفها الغموض، وشابها التوجس خيفة من حقيقة مهمة الرجل المثير للجدل، فضلا عن زيارات أخرى قام بها لدولة النيجر المجاورة.
ورغم أن “عبد القدير خان” ومقربين منه، كانوا يصرون على أن رحلاته إلى مدينة تمبكتو وصحراء أزواد في شمال مالي، كانت بغرض السياحة والاستجمام، إلا أن المعطيات المتوفرة عن تلك الرحلات، والشخصيات التي اصطحبها “عبد القدير خان” معه خلالها، كفيلة بنسف تلك المزاعم ودحضها، بل تشي بأن الرجل كان في رحلات عملية غامضة ومثيرة، وليست مجرد جولات سياحية ترفيهية.
البداية بساعات معدودات
كانت البداية في شهر فبراير عام 1998 حين وصل العالم النووي الباكستاني “عبد القدير خان” إلى مدينة تمبكتو بشمال مالي لأول مرة، قادما من دبي عن طريق الدار البيضاء ومنها إلى مطار بامكو، حيث أجر طائرة خاصة بملغ 4000 دولار أمريكي، نقلته إلى مدينة تمبكتو، وكان برفقته رجل أعمال هولندي يدعى “هانك”، سيتهم لاحقا معه في ما يعرف “بشبكة خان” لبيع المعلومات والتجهيزات النووية، وبرفقتهما جنرال من الجيش الباكستاني يدعى “تشوهان”، وشخص آخر يدعى “عبد المعبود صديقي” وهو رجل أعمال بريطاني من أصل باكستاني مقيم في لندن، له صلة قوية بعبد القدير خان وشركائه، ولم يُمض خان وصحبه في مدينة تمبكتو خلال تلك الزيارة سوى ساعات قليلة، عاد بعدها إلى دبي عبر نفس الطريق الذي وصل منه إلى المدينة.
وبعد عام على تلك الزيارة وبالتحديد في شهر فبراير عام 1999، عاد “أبو القنبلة الذرية الباكستانية” ثانية إلى جوهرة الصحراء تمبكتو، ورافقه هذه المرة كبير مستشاريه العلميين، الدكتور “فخر حسن”، وجنرال باكستاني من هيئة التصنيع النووي، يدعى “تاجورا”، وصديقه “عبد المعبود صديقي”، وبصحبتهم عدد من كبار المسؤولين في لجنة الطاقة الذرية الباكستانية، وقد وصلوا إلى مدينة تمكبتو قادمين من دبي، عبر الخرطوم ومنها إلى نيامي ثم إلى مالي.
لكن هذه المرة قرر “خان” ورفاقه الإقامة في مدينة تمبكتو عدة أيام، تجولوا خلالها في الصحراء والمناطق السياحية هناك، وزاروا بعض المعالم السياحية مثل مكتبة مركز أحمد باب التمبكتي، والمسجد العتيق في المدينة المعروف باسم جماع “جنكري بير”.
الفندق اللغز
وبعد تلك الرحلة قرر “عبد القدير خان” توطيد العلاقة بالمكان والتقرب من السكان، فتطوع بتكاليف حفر بئر للسكان في تلك الصحراء القاحلة، وأنشأ فندقا في المدينة (الصورة)، سماه باسم زوجته الهولندية “اندرينا خان” (Hotel Hendrina Khan)، وسلمه لأحد مرشديه السياحيين من أبناء المدينة يدعى “عبد الرحمن”، ما يزال يديره حتى اليوم، وقد اشترط “خان” على مسير الفندق (الذي أصبح اليوم مالكه، حسب قوله) أن لا تباع فيه الخمر، ولا تقام فيه حفلات الرقص، ولا أي نوع من أنواع المخالفات الشرعية، لكن كثيرين في المدينة اليوم يعتقدون أن الفندق الذي أصبح مقرا لقوات الأمم المتحدة (المنيسما)، لم يعد باستطاعة مسيره (مالكه) الوفاء بتلك الالتزامات، نظرا لطبيعة المقيمين الجدد فيه.
هذا الفندق الذي تتربع صورة “اندرينا خان” وسط قاعة الطعام فيه، كشفت بعض المصادر أن “عبد القدير خان” اهتم به كثيرا وأشرف هو شخصيا على معظم مراحل تأسيسه وتجهيزه، كأحد مشاريعه الخاصة والمهمة، واستجلب له الأسِرَّة وبعض الأثاث الخشبي والفُرش من باكستان، ومكيفات الهواء التي ينتجها مصنع “ديكان” في كراتشي، حيث تم نقل تلك المعدات في بداية عام 2000 بواسطة طائرة تابعة للقوات الجوية الباكستانية، إلى مطار طرابلس في ليبيا، ثم تم وضعها في شاحنات عابرة للصحاري نقلتها إلى مدينة تمبكتو، واشرف “عبد القدير خان” نفسه على نقل الأثاث ورافقه من مطار إسلام باد إلى مطار طرابلس، وحرص على حضور شحنه ونقله برا إلى المدينة التاريخية في أزواد.. فهل كان أثاث الفندق وحده ما خصصت الطائرة عسكرية لنقله، ورافقه “خان” شخصيا، أم كان مجرد غطاء على ما هو أهم وأخطر؟، ولماذا اختار “خان” نقل تلك “الأمتعة” جوا إلى طرابلس بدلا من باماكو، وشحنها برا رغم المسافة الشاسعة والخطيرة جدا بين طرابلس وتمبكتو، والتي تستوجب قطع آلاف الكيلومترات في أرض سائبة لا سلطان عليها، ولا قوة نظامية تحميها، وتفرض حتمية المرور بأراضي النيجر أو الجزائر للوصول من ليبيا إلى أزواد، ,اي دور للسلطات الليبية يومها في تلك الرحة المبهمة.
ويصر كثير من الباحثين والمحققين على أن زيارات “عبد القدير خان” إلى تمبكتو وصحراء أزواد، لها صلة بعمله في مجال البحث والتصنيع النوويين، ومن الراجح أن يكون لها دور لا يستهان به في أنشطة شبكته العالمية التي كانت تتاجر بالمعلومات والمعدات النووية، بل قد تكون تلك الزيارات ذات مهام متعددة، أولها البحث عن اليورانيوم الموجود بكميات كبيرة في صحراء النيجر، خصوصا في إقليمي “آرليت” و”أغاديز” المجاورين لصحراء أزواد، وتحتكر شركة “آريفا” الفرنسية استغلاله، في حين تؤكد مؤشرات عمليات التنقيب وجوده في أزواد بشمال مالي، إضافة إلى أن تلك الصحراء قد يكون بها متسع مُهمَل وغُفل من أي رقيب، بعيدا عن الأنظار والرصد، لإجراء تجارب نووية خاصة، هذا فضلا عن سهولة التواصل منها والعمل فيها، مع دول في المنطقة كانت لها طموحات نووية في تلك الفترة مثل ليبيا والسودان، وكان “خان” وشبكته على صلة وثيقة بها.
وإذا ما عدنا قليلا إلى أرشيف الأحداث سنجد أن التحقيقات التي خضع لها “خان” وعناصر شبكته، بعد انجلاء أمره وتفكيك خليته، كشفت عن نشاط مكثف له خلال تلك الفترة (من 1998 إلى 2002) في بيع وتسريب معلومات ومواد تستخدم في صنع القنابل الذرية، لبعض الدول مثل إيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا.
أسئلة عالقة
فهل كان “أبو القنبلة الذرية الباكستانية”، يتخذ من صحراء تمبكتو، حقل تجارب على مشارف حدودنا الشرقية، أم جاء في غفلة من دول المنطقة وسلطاتها، للتفتيش عن اليورانيوم، وتنشيط أعمال شبكته النووية في هذه المنطقة بعيدا عن أعين المراقبين والراصدين، وهل كان يتخذ من فندقه في مدينة تمبكتو النائية البعيدة عن أنظار العالم، مخبأ لإدارة أعماله السرية، ولماذا أصر على العودة بانتظام كل شتاء إلى تلك المدينة الفقيرة النائية عنه، والتي كان فيها غريب الوجه واليد واللسان، رغم انعدام الأمن فيها، وغياب الأمان عنها.
لكن المفارقة الأغرب، هي أن وصول العالم النووي الباكستاني “عبد القدير خان” إلى منطقة أزواد بشمال مالي، سبقه بفترة وجيزة وصول بعض كبار شيوخ وعلماء جماعة الدعوة والتبليغ الباكستانيين إليها، والذين كان لهم الفضل في انتشار دعوة تلك الجماعة بشكل غير مسبوق في منطقة أزواد التي بات شيوخها وقادتها التقليديون وسكانها العاديون يخرجون، بأعداد كبيرة في “مواسم الخروج” التي تنظمها جماعة الدعوة والتبليغ من حين لآخر، وانتشروا في دول الجوار، فكانت مساجد باماكو ونواكشوط ونيامي ووغادوغو ودكار وغيرها من عواصم ومدن المنطقة، ميدانا لنشاطاتهم الدعوية، بل إن بعضهم كانوا يجوبون بعض دول أوربا ويتجولون بين مساجدها، خارجين للدعوة في سبيل الله، انطلاقا من تمبكتو وكيدال وغاو وباماكو.
ورغم التزامن بين وصول “خان وجماعته” وشيوخ “الدعاة الباكستانيين” إلى صحراء أزواد، فإن كل المؤشرات المتوفرة والظاهرة، تؤكد أن الصدفة وحدها هي الجامع بين الاثنين في تلك المنطقة.
فهل كان أزواد منطقة لخير باكستان، ومسرحا لشرها، ومنطلقا لدعاتها إلى الله، ووكرا لنشاطاتها السرية النووية؟ وهل كان “عبد القدير خان” سائحا وباحثا ورائدا في نفس الوقت، وما سر الفندق المقام في تمبكتو بصحراء غرب إفريقيا، المجهز بأثاث استجلب من إسلام باد وكراتشي في شبه القارة الهندية؟ وأي سياحة جلبت “خان” من لاهور إلى دبي إلى “جوهرة الصحراء”؟، لا ريب أن وراء الأكمة ما وراءها.