طالعت في عدد من الصحف الإلكترونية الفرنسية والمالية مقالا تحت عنوان ” الإرهاب: أدلة على علاقة بين نواكشوط والقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي “. (Terrorisme: Des preuves de connexion entre Nouakchott et AQMI) ، موقع باسم ” Jean Pierre James” أود بداية وبداهة أن أوضح أنني لست بصدد نفي أو تأكيد النتيجة التي توصل إليها كاتب المقال، وجزم من خلالها بوجود علاقة بين نواكشوط والقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، بقدر ما تهمني قراءة الأدلة التي ساقها والمعلومات التي قدمها، ومحاولة استقراء أبعادها وخلفياتها على ضوء معطيات الواقع، وأحداث الماضي القريب .
فقد تصورت للوهلة الأولى عند قراءة العنوان أن في الأمر سبقا صحفيا سيكشف صحابه حقائق مسلمة لا شية فيها، وأنه سيضع بين يدي القراء أدلة قاطعة على وجود علاقة بين طرفي معادلة العنوان، غير أنه مع التوغل في المقال اتضح أن الكاتب يؤسس فرضيته، على مؤشر واحد، هو عدم تدخل موريتانيا في الحرب الدائرة في مالي، وساق أحداثا أراد من وراءها تعزيز فرضيته أو حكمه الاستنتاجي، وأول تلك الأدلة ما سماه وصول “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” (GSPC) إلى مالي قادمة من موريتانيا، قبل أن يصبح اسمها “تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي” (AQMI)، وهنا يبدو أن كتاب المقال لم يكلف نفسه عناء البحث في تاريخ هذه الجماعة، وإلا كان على علم بكونها جماعة جزائرية المنشأ والمنطلق، وأن صحراء مالي كانت أول أرض غير جزائرية يصلها عناصرها، بل لعلم إن المقاتلين “الجهاديين” في الجزائر، اكتشفوا حالة التسيب والفوضى وغياب السلطة في مناطق صحراء أزواد (شمال مالي) منذ عام 1994، قبل تأسيس “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” بأربعة أعوام، واتخذوا منها ومن صحراء النيجر مسرحا لأنشطة التدريب والتسليح وتهريب المؤونة والسلاح إلى العمق الجزائري، وكان تنظيمهم يومها يحمل اسم “الجماعة الإسلامية المسلحة” (GIA)، غير أنه في منتصف عام 2000 ـ بعد تأسيس “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” بعامين ـ قرر أمير منطقة الصحراء في تلك الجماعة، “المختار بلمختار” الاستقرار مع عدد من عناصره في صحراء شمال مالي، واتخذوها قاعدة خلفية لتدريب وتأهيل المقاتلين، وشراء السلاح وتهريبه إلى الجزائر، واستقبلوا في تلك الصحراء، مبعوث زعيم تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” إلى الصحراء، “أبو محمد اليماني” سنة 2001، حيث أقام زهاء تسعة أشهر متنقلا بين المعسكرات والجبال والصحاري داخل “الأراضي المالية”، التي وصلها قادما من النيجر، وفي سنة 2003 دخل قائد المنطقة الخامسة في الجماعة السلفية للدعوة والقتال “عبد الرزاق البارا” إلى الأراضي المالية مصحوبا بأكثر من ثلاثين رهينة من دول أوربية، اختطفهم من جنوب الجزائر، ووصلته أموال الفدية مقابل إخلاء سبيلهم قادمة من باماكو عبر سيارات رباعية الدفع، ومنذ ذلك التاريخ اتخذت جماعته من “الشمالي المالي” موطنا لها حتى اليوم.
وفي “الأراضي المالية” كذلك استقبل قادة “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، “يونس” وهو المبعوث الثاني لأسامة بن لادن إلى “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” سنة 2006، التي وصلها أيضا عن طريق باماكو قادما من طهران، وهو يحمل معه شروط قبول “بن لادن” لبيعة الجماعة وانضمامها إلى القاعدة، وتغيير اسمها ليصبح “قاعدة الجهاد ببلاد المغرب الإسلامي”، وفي “الأراضي المالية” ولدت “إمارة الصحراء الكبرى” التابعة للقاعدة بعد أن وصل قادتها وعناصرها إلى “شمال مالي” قادمين من الجزائر، وأصبحت أكبر فرع للتنظيم، وفيها ـ أي الأراضي المالية ـ تأسست الكتائب والسرايا التابعة للقاعدة وتوسعت وتشعبت، مثل كتيبة “الملثمون” و”كتيبة طارق بن زياد”، و”سرية الفرقان” و”سرية الأنصار” و”سرية القدس” و”سرية يوسف بن تاشفين”، وفيها تأسست “جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا” على يد عناصر وقادة من المواطنين الماليين، وكذلك “جماعة أنصار الدين” التي أسسها أيضا قادة ومسلحون ممن تعتبرهم مالي مواطنين متمردين على سلطتها، وقبل سنوات تأسست في وسط مالي “كتائب تحرير ماسينا” المشكلة من مسلحين ينتمون لقبائل “الفلان” المالية، والقادمين من قرى الاضطهاد والظلم في موبتي ونمبالا، وسائر مناطق الوسط المالي، وعلى تلك “الأراضي المالية” اتخذت الجماعات الجهادية مخابئ للرهائن الذين اختطفهم من مالي ودول المنطقة، ومنها انطلقت كل العمليات التي نفذتها “الجماعة” داخل الأراضي الموريتانية خلال الفترة ما بين 2005 و2011، وفيها استقبلت القاعدة ومن قبلها الجماعة السلفية للدعوة والقتال، أفواج المقاتلين النيجريين من جماعة “بوكو حرام” وتم تدريبهم على الأراضي المالية قبل إعادة إرسالهم إلى موطنهم.
هذه مجرد نماذج فاتت على كاتب المقال معرفتها، أو نسي استطرادها، قبل الحديث عن قدوم “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” من موريتانيا إلى مالي، واعتبار ذلك أحد الأدلة على تبرير العلاقة المفترضة.
موريتانيا والحرب في مالي
أما الدليل الثاني الذي ساقه كاتب المقال على وجود العلاقة بين نواكشوط والقاعدة، فهو مشاركة موريتانيا في قوات حفظ السلام الدولية في وسط إفريقيا، ورفضها المشاركة في قوات حظ السلام الدولية في مالي، ولعل الكاتب غفل عن جملة حقائق تتعلق بالوضع الداخلي المالي، والعلاقة الموريتانية المالية الحساسة، بحكم الجوار الجغرافي والتداخل الديمغرافي والتآصر الاجتماعي، خصوصا في مناطق التوتر والنزاع بوسط وشمال مالي، فالأزمة العنيفة في شمال مالي متعددة الأوجه ومتشابكة الخلفيات، ولم يكن الصراع بين باماكو والحركات الجهادية يوم قدوم القوات الدولية إليها سنة 2013، بأخف حينها من صراعها مع من تعتبرهم مواطنيها المتمردين في الشمال، وهو الصراع الذي ولد مع ميلاد الدولة المالية مطلع ستينيات القرن الماضي وظل قائما حتى خرجت مالي من منطقة أزواد بشكل كامل سنة 2012، بعد هزيمة جيشها على يد مسلحين من منطقة أزواد، قدموا من داخل مالي (بعضهم كانوا ضباطا وجنودا في الجيش المالي) ومن ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، ثم عودة الجيش المالي لاحقا إلى أجزاء من منطقة أزواد بداية 2013 تحت حماية القوات الفرنسية، وكان واضحا يومها أن الحكومة المالية تسعى ـ عبر تصنيفها للحركات المسلحة التي تقاتل من أجل استقلال أزواد، كتنظيمات إرهابية ـ إلى خلط الأوراق، ودفع الجيران والحلفاء إلى مساعدتها في قمع مسلحين يطالبون برفع مظالم داخلية تخص مالي كبلد ذي سيادة واستقلال، كما كان واضحا يومها أن أي تدخل عسكري موريتاني في مالي سيكون بمثابة التورط في مستنقع أزمة معقدة ومتعددة الأوجه، ولا سبيل للحديث عن نجاح أي مهمة للقوات الدولية فيها أو توقع ذلك، وهو ما أثبتت الأيام صحته، إذ تحولت مهمة قوات حفظ السلام الدولية في مالي، إلى مجرد “الدفاع عن النفس”، فقد حصدت هذه القوات الرقم الأكبر من الضحايا بين قوات حفظ السلام الدولية في شتى أنحاء العالم، ولولا عزوف موريتانيا عن التورط في ذلك المستنقع لما أتيح لها من خلال وساطة رئيسها إنقاذ مالي من الانهيار حين هزم جيشها في كيدال خلال شهر مايو عام 2014، وهربت وحداته من غاو وتمبكتو تحسبا لزحف المسلحين الأزواديين إليها، رغم وجود القوات الفرنسية والدولية فيها، ولعل الكاتب يتذكر دموع الرئيس “إبراهيم ببكر كيتا” وهو يقول إن الوساطة الموريتانية أنقذت مالي من السقوط.
هذا فضلا عن أن تجربة موريتانيا في الشراكة العسكرية مع مالي خلال ملاحقة للجماعات “الجهادية” هناك، كانت كفيلة بإعادة التفكير ألف مرة قبل أي تحالف جديد معها، فقد اكتفت مالي باستضافة المعارك على أراضيها والتفرج على أحداثها في سنوات 2009و2010و2011، بل كانت مساهمتها الأهم في تلك الحرب، هي التخلي عن الجيش الموريتاني قبل ساعة من بدء المعركة، وتزويد الطرف الآخر بخطط المعركة ومعلومات الكتائب الموريتانية، وهو ما حصل في معركة “غابة واقادو” منتصف عام 2011.
كما قدم الكاتب دليلا آخر على وجود العلاقة المفترضة بين نواكشوط والقاعدة، وهي أن مهاجمي مدينة “نارا” في يونيو سنة 2015 قدموا من “غابة وقادو” قرب الحدود مع موريتانيا، مع العلم أن “غابة واقادو” تقع داخل الأراضي المالية، ومهمة حمايتها تقع على عاتق القوات المالية أو القوات الحليفة التي قررت مشاركتها الحرب على القاعدة والجماعات المسلحة.
كما تحدث عن الهجوم الذي استهدف وحدة للجيش المالي في مدينة “ليره” أواخر شهر إبريل عام 2015، وهو هجوم نفذه مسلحون تابعون لمنسقية الحركات الأزوادية خلال فترة انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بينها وبين الحكومة المالية، وقد أعلنت تلك الحركات مسؤوليتها عن الهجوم، دون أن يكون للحركات “الجهادية” التي يتهم الكاتب موريتانيا بالعلاقة معها، أي دور فيه، ولو سلمنا جدلا بصحة المعلومات التي ساقها الكاتب عن معالجة جرحى تلك المعركة في مستشفيات النعمة ونواكشوط، فإن الأمر يتعلق بحركات أزوادية لها مكاتب في الجزائر ونيامي وواغادغو وبامكو ونواكشوط، تعمل بشكل رسمي وعلني، بل إن علاقة بعضها مع “الجهاديين” تتسم بالعداء والاقتتال.
دليل آخر ساقه كاتب المقال على طريقة من يقرأ قوله تعالى “ويل للمصلين..”، ثم يقف عن بقية الآية، وهو حادثة هروب السجين السلفي “الشيخ ولد السالك” المتهم في محاولة تفجير بنواكشوط سنة 2011، في ظروف وصفها المقال بأنها غامضة، ثم توقف عن الحديث عن إعادة اعتقال المعني، ليوهم القارئ أن ولد السالك تم تهريبه عمدا، وما زال حرا طليقا.
خلاصة مقال الكاتب أنه استنتج وجود علاقة بين نواكشوط والقاعدة، انطلاقا من تحليله لمعلومة واحدة، وهي أن موريتانيا لم تشارك في الحرب الدائرة في مالي ضد الجماعات الجهادية، سواء عن طريق القوات الدولية أو عن طريق القوة المشتركة لدول الساحل(G5)، أما ما ساقه من أدلة وبراهين فلا تنهض ـ عند تشريحها وتفكيكها ـ كدليل قاطع على وجود تلك العلاقة المفترضة.