ينحدر الموريتاني محمد عبد الله من ولاية الحوض الشرقي، وكان يمتهن رعي الغنم في الفيافي الشاسعة، قبل أن يتوجه إلى العاصمة نواكشوط، التي تبعد 1200 كم، لاعتقاده أنها ستخلصه من مكابدة الرعي في حر الصحراء وتحقق له العيش الكريم. ولكن الأحلام رست به عند ملتقى طرق بأحد أسواقها، حيث يستجدي المارة، فيعطيه هذا ويمنعه ذاك.
يقول عبد الله إن مرضا أقعده عن العمل، مما أجبره على سؤال الناس ليكسب قوت يومه، وهو السبب الذي يتحدث عنه آلاف المتسولين في نواكشوط أيضا.
ويتوافد المتسولون على العاصمة من كل الولايات باعتبارها مدينة الأحلام والفرص. حتى بات بعض الموريتانيين يسمونها “عاصمة التسول”؛ ففي كل زاوية، وأمام كل محل، وعند جميع التقاطعات والإشارات، وحتى أمام القصر الرئاسي، يتواجد المتسولون رجالا ونساء وأطفالا، يسألون الناس بإلحاح، ويتخطف الكثيرين منهم الموت على الطرقات.
ويقول الأهالي في العاصمة إن التسوّل هنا لم يعد مغريا للموريتانيين فقط، بل لحق بهم عرب وأفارقة مقيمون في نواكشوط. ويجلس عبد الله وزملاؤه في أماكنهم حسب الأسبقية، ويقول إنهم لا يجدون مضايقة إلا من متسول ضرير يضربهم تارة بعصاه ويكيل لهم الشتائم تارات أخرى.
صراعات
ولا تعتبر تقاطعات الطرق في الأحياء الشعبية أماكن إستراتيجية بالنسبة للمتسولين المحترفين. بخلاف الأحياء الراقية في العاصمة، وكذلك عتبات البنوك، ومداخل المستشفيات، وبوابات المجمعات التجارية، والمقابر. وهنا تشاهد صراعات بين المتسولين قد تصل إلى حد الشجار.
يقول البائع المتجول محمد مبارك إنه سبق أن فض نزاعا بين متسولين على مكان الجلوس في أحد تقاطعات الطرق بالقرب من إشارة المرور، وكان أحدهما يعتبر أنه أحق بالمكان، لأنه يجلس فيه منذ سنوات، بينما يرى الآخر أن الأحق لأنه سبقه إليه منذ صلاة الفجر.
أما عائشة التي تبدو بصحة جيدة، فتشكو من مضايقات زميلات لها في “المهنة” على المكان الذي تجلس فيه منذ سنتين. وعندما قابلتها الجزيرة نت، كانت تبسط حصيرها في مكان يجمع بين المارة المتجهين نحو السوق والخارجين من أحد البنوك.
وتحصل عائشة في اليوم الواحد على أكثر من ألف أوقية (نحو 27 دولارا) وهو عائد مغر يوميا، ويفوق دخل المتسولين في تقاطعات وسط العاصمة بكثير، حيث يقدرون دخلهم اليومي بـ 300 أوقية (نحو 8 دولارات).
سألناها عن إمكانية تخليها عن هذا المكان بمقابل مبلغ مالي، فأجابت أنها لا تفكر في ذلك، ولكنها لا تستبعده إذا كان العرض جيدا.
وبات مألوفا استئثار بعض المتسولين ببعض الأماكن “المدرة للدخل” إلى حد أنها صارت تُباع وتُشترى. ومؤخرا باع أحدهم مكانه الذي يتسول فيه على ناصية الشارع بـ 50 ألف أوقية (حوالي 1400 دولار) لمتسول آخر. كما أن القضاء سبق أن نظر في نزاع بين متسولين على نقطة إستراتيجية في العاصمة.
السبب والزمان والمكان
يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة العلوم الإسلامية بمدينة العيون، التيجاني خيري، إن التسول ظاهرة اجتماعية قديمة تنبع من الحاجة والفقر، وترتبط بعاملي الزمان والمكان، ففي شهر رمضان، مثلا، يكثر المتسولون لأن الناس تكثر فيه من الصدقة.
ومن الناحية المكانية يتجه المتسول إلى الأماكن التي يتوسم فيه الشفقة، فيستعطف الناس أمام البنوك والمساجد والمقابر، ليستغل حالاتهم الشعورية من سعادة وارتياح أو انكسار أو خشوع.
ويربط الصحفي أحمد سالم باب اتساع ظاهرة التسول بعوامل عدة، منها اتساع الفقر والبطالة، وتحلل المجتمع من قيمه الأصيلة المتعلقة بالقناعة والاعتماد على النفس.
لكنه يضيف إلى أسباب اتساع التسول في نواكشوط خاصة، وجود جاليات كبيرة من أفريقيا، فموريتانيا معبر إلى أوروبا يجتمع فيها اللاجئون من مختلف الجنسيات.
أين الحكومة؟
وسعت الدولة الموريتانية إلى محاربة ظاهرة التسول والحد منها عن طريق إنشاء برنامج لمكافحتها، لكنها فشلت في إقناع المتسولين بالتخلي عن مهنتهم، لتقرر بعدها إنشاء هيئة خيرية تدعى “هيئة موريتانيا بدون متسول”. وهذه الأخرى لم تتمكن من تقديم مقاربة جادة لاحتواء الظاهرة التي تنتشر على نطاق واسع في العاصمة.
وفي نهاية 2020، قدمت الهيئة مساعدات لـ 900 متسول ينتمون إلى 3 فئات: المعوقين والمسنين، وفئة أخرى مختلطة. وتستعد لنشاط مماثل نهاية هذه السنة أيضا. وقد استفاد مؤخرا 100 متسول أجنبي من مساعدات الهيئة الموريتانية، حسب ما جاء في تقرير للوكالة الموريتانية للأنباء.
وحسب مصادر وزارة الداخلية الموريتانية، فإن هذه الهيئة لا تتوفر لديها إحصائيات شاملة لعدد المتسولين في العاصمة. لكن تقديرات سابقة تحدثت عن وجود أكثر من 3 آلاف متسوّل في العاصمة نواكشوط، المكونة من 9 مقاطع والتي يبلغ عدد سكانها 660 ألف نسمة.
ويشكو المتسولون من ارتجالية الإجراءات التي تتخذها السلطات لتقديم العون لهم، معتبرين أن ما تقدمه الدولة لا يغطي حاجياتهم ويصل متقطعا ومتأخرا، بينما يحصلون على ضعفه من التسول. وينتظر هؤلاء تقديم حل شامل لمعاناتهم ويغنيهم عن هذه المهنة.
يقول الصحفي أحمد سالم باب إن تأثير الهيئات التي أنشئت لمواجهة هذه الظاهرة، لا يزال قاصرا ومحدودا، لأنها تعتمد على دراسات غير مكتملة ولا تتبع سياسة ناجعة. إذ تكتفي المؤسسات بتوزيع مبالغ محدودة سنويا، لا تكفي لتغطية حاجات المعوزين، لهذا السبب يفضل المتسولون الاعتماد على دخولهم اليومية التي تفوق المساعدات بكثير.