لم يأت قرار ترامب القاضي باعترافه بالقدس عاصمة للكيان العنصري الصهيوني إلا بعد ممهدات على الأرض بعضها قديم قدم أنظمة عربية قائمة وبعضها وليد أحداث ما سمي بــ “الربيع العربي” وما صاحبه ونجم عنه من دمار وخراب في الوطن العربي أنهى قوة وتأثير العديد من الدول العربية في الساحة العربية والإقليمية والدولية وأضعف أخرى فشغلها في حروب مع الإرهاب وإعادة الإعمار عن القضية الجوهرية للأمة وهي القدس وفلسطين.
وقد كانت الحرب على العراق وتدميره واحتلاله واستهداف ليبيا في الثمانينيات من القرن الماضي وقصف السودان ثم تقسيمه لاحقا ممهدات لما سيحصل في الوطن العربي عام 2011 من خراب ودمار باسم (الثورة).
وغني عن القول والتذكير أن أنظمة عربية عائلية قائمة منذ ما قبل احتلال فلسطين و(استيراد) يهود العالم إليها عبر “الوكالة اليهودية” وبدعم غربي واسع وكذلك بدعم من انظمة عربية عديدة، كانت قد باركت نتائج وعد “بلفور” الذي صدر عنه عام 1917 والقاضي بمنح وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو القرار الذي أعطى اليهود أخصب وأهم الأراضي الفلسطينية بعد تجسيده من طرف الأمم المتحدة عام 1947 حيث منح قرارها رقم 181 للفلسطينيين الضفة الغربية وقطاع غزة وعكا وبعض مناطق الخط الأخضر حاليا بمساحة تبلغ 11000 كم مربع أي 42,3% من مجمل أرض فلسطين مقابل منح الارض الممتدة من أم الرشراش (إيلات) جنوبا وحتى الجليل وحيفا شمالا، والتي تضم أهم مدن فلسطين بما في ذلك يافا (التي أطلق عليها اليهود الوافدون من كل أنحاء العالم اسم تل أبيب) وعسقلان واللد والرملة والناصرة وحيفا وغيرها مع إبقاء القدس والخليل والمناطق المجاورة تحت وصاية دولية، وبذلك حصل اليهود على 57.7% من أخصب أرض فلسطين لإقامة كيانهم الغريب أي على مساحة قدرها 15000 كم مربع قبل احتلال ما تبقى من فلسطين وسيناء والجولان لاحقا.
لم يكن كل النظام الرسمي العربي جادا في مواجهة قرار التقسيم ولا مواجهة الهجرة اليهودية الهائلة إلى الأرض العربية في فلسطين بما في ذلك الأتراك والمصريون والأردنيون والسعوديون والسوريون واللبنانيون والأردنيون والعراقيون وهي الدول العربية التي كانت قد حصلت على (استقلالها) في تلك الفترة، رغم رفضهم للقرار الأممي وتجييش بعضهم للجيوش من أجل (التحرير)، غير أن أنظمة عائلية قد وقعت على وثيقة للبريطانيين تؤكد لهم دعمها لتوطين اليهود “المساكين” في فلسطين وإقامة وطن لهم فيها، وأكدت أنها لا تخرج على ما تراه بريطانيا العظمى مثل الملك عبد العزيز آل سعود والملك فيصل وبالتالي فاعتراضهم وتجييشهم كان للاستهلاك المحلي لا أكثر.
أواخر الخمسينيات وحتى السبعينيات شكلت الأنظمة القومية والتقدمية الوافدة عائقا حقيقيا في وجه تنفيذ كامل السياسة الاستعمارية في المنطقة، غير أنه وبسبب ضعف هذه الأنظمة عسكريا واقتصاديا لم يكن في استطاعتها ان تستعيد فلسطين بل اكتفت بمواجهة الاستعمار تكتيكيا وكبح جماح التوسع الصهيوني إلى ان حلت نكسة 1967 حيث سيطر الصهاينة على الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وكامل قطاع غزة وعكا ومناطق أخرى وسيناء والجولان، ومع ذلك ظلت الممانعة قائمة والأنظمة العربية العميلة للغرب لا تجرؤ على إعلان دعمها بصورة فجة، كما هي اليوم، للاستعمار والصهاينة رغم كل مؤامراتها على أنظمة الممانعة تلك ومحاولاتها اغتيال رموزها مثل جمال عبد الناصر والانقلاب على النظام القومي في سوريا مثلا لا حصرا.
جاء تفجير برجي التجارة العالمية في امريكا ليشكل فرصة سانحة للأمريكان والصهاينة لإعلان “حرب الصليب” كما سماها بوش، تلك “الحرب المقدسة” التي تحرق كل شيء، والشروع في التخطيط للفوضى الخلاقة، فتم تدمير أفغانستان كمقدمة للشروع في تدمير البلدان العربية القوية والممانعة معا، وذلك بحجج مختلفة إلا أن الهدف واحد، وهو القضاء على كل مصادر التهديد على الكيان الصهيوني وإبقائه القوة العسكرية والاقتصادية الوحيدة في المنطقة العربية، وبذلك تم استدراج العراق لمستنقع الكويت ثم للحرب عليه والتي تتواصل حتى اليوم مع “داعش” والإرهاب، ثم جاء الدور على ما بعد تونس مثل ليبيا وسوريا واليمن ومصر وقبل ذلك وبعده لبنان حيث تم طرد المقاومة الفلسطينية إلى الشتات العربي في اليمن وتونس وغيرهما بعيدا عن خط المواجهة مع العدو الصهيوني ثم استهداف لبنان في معارك عديدة للقضاء على المقاومة الإسلامية التي تجري شيطنتها وتصنيفها (إرهابية) خدمة للكيان الصهيوني وأمريكا.
ظلت أمريكا وبريطانيا وفرنسا ودولا أخرى تدعم بقوة هذا الكيان العنصري الغريب المفروض على الشعب الفلسطيني بما في ذلك استخدام الفيتو ضد مشاريع إدانة جرائم الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني والعربي. حيث استخدمت الولايات المتحدة الامريكية حق النقض “الفيتو” 80 مرة في مجلس الأمن الدولي منها 42 مرة كانت ضد إدانة ممارسات كيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة العربية، من بينها 31 تصويتا ضد قرارات تخدم القضية الفلسطينية. ولم يكن هذا الدعم الامريكي والغربي للكيان الصهيوني يواجه بمواقف عربية وإسلامية صارمة بل إن أكبر داعم مالي وسياسي لأمريكا وبريطانيا هو انظمة عربية تدعي الاهتمام بالقضية الفلسطينية والقدس، وهو تمويل بلغ ذروته حين حصل المعتوه دونالد ترامب على 480 مليار دولار، أي قرابة نصف تريليون دولار من السعودية في إطار (صفقة) بين البلدين، وهو دعم لم تحظ به كافة الدول العربية الفقيرة بما فيها فلسطين منذ إنشاء المملكة وحتى اليوم. وفوق ذلك يجري التنسيق السياسي وحتى الأمني بين الكيان الصهيوني وبعض العواصم العربية كالرياض والدوحة والقاهرة والمنامة وأبو ظبي وغيرها ضمن استراتيجية جديدة تستهدف تحويل بوصلة العرب نحو حرب وشيكة ضد إيران بدلا من مواجهة الاحتلال الصهيوني وتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى سيد المرسلين، لننشغل في حرب عبثية مع بلد إسلامي كبير بعيدا عن القدس وفلسطين ويتم استنزاف الجميع لمصلحة الكيان العنصري الصهيوني.
كان لا بد من تمزيق الوطن العربي عن طريق “الفوضى الخلاقة” التي سماها إعلام الغرب وأعوانه في المنطقة بــ(الربيع العربي) في مرحلتها الثانية، وما سبقه من تدمير للعراق واستهداف لليبيا وغيرهما حتى تغيب عواصم عربية وازنة عن مشهد اليوم، مثل القاهرة ودمشق وطرابلس الغرب وصنعاء وغيرها، هذا المشهد الذي يتم فيه تقديم اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني على طبق من ذهب عربي للصهاينة، وهو الذهب الذي جرى تطويق ترامب به في عواصم خليجية ومن قبل أغلب قادة العرب (الوازنين) اليوم.
إن ما نشهده اليوم هو مرحلة متقدمة من التنازل عن فلسطين ودعم المحتل ومن يقف وراءه لقاء حماية عروش وأنظمة متعفنة همها الوحيد هو إرضاء واشنطن وتخريب المنطقة (حرب على الشعب اليمني تنفذها وتمولها دول خليجية وعربية، حرب على سوريا تمولها أنظمة عربية ومجموعات إرهابية مثل داعش والقاعدة، والعراق من خلال تمويل الجماعات الارهابية هناك، وإشغال ليبيا عبر حروب الميليشيات والإرهاب الداعشي وغيره، وإشغال مصر بالحرب على الارهاب ليس في سيناء فحسب بل وفي القاهرة ذاتها عبر تنفيذ عمليات ارهابية وسط العاصمة المصرية، وكذلك تونس والجزائر والى حد كبير موريتانيا من خلال تمويل ودعم الجماعات الارهابية فيها او على حدودها لتبقى بعيدا عن المشهد الفلسطيني والعربي منشغلة في مواجهتها مع الارهاب).
واليوم ومجددا يبقى الشعب الفلسطيني وحده في مواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني الرجعي العربي، وهو في وضع لا يحسد عليه، تحكمه سلطة مقيدة ومحاصرة في بعض مناطق الضفة ويحاصره الاحتلال في غزة ويمزقه الانقسام العربي وحروب “ملوك الطوائف” في مختلف أرجاء الوطن العربي.
ومع ذلك، ومثلما انتفض في العام 1987 وما بعدها وحتى انتفاضة السكاكين، ها هو اليوم يلفظ أوسلو والمقيدين بها ويلفظ الرجعية العربية وأذنابها ويقارع ترامب والصهاينة في مواجهة “صفقة القرن” وبيع القدس والأقصى وتصفية ما تبقى من فلسطين.
ها هو اليوم يواجه الاحتلال بقوة وعزيمة لا تلين، عزيمة المرابطين المصممين على النصر وعلى هزيمة الصهاينة وأمريكا وأذنابهم من الأنظمة العربية الرجعية العميلة.
قد ينطبق على قرار “ترامب” المثل العربي “رب ضارة نافعة”، إذ مكننا جميعا من أن نستمع ونشاهد مواقف النظام الرسمي العربي حول القدس ومصيرها، فكم هي العواصم التي استدعت سفراء أمريكا للاحتجاج؟ وهل هناك عاصمة عربية طردت سفيرا أمريكيا احتجاجا على هذا القرار؟ وهل طردت أي من عواصم التطبيع سفراء الكيان الصهيوني؟ وكيف كان موقف جامعة الدول العربية؟ لقد كانت كل تلك المواقف تتناغم ومشيئة الكيان الصهيوني والرئيس الامريكي ترامب، إننا أمام حالة تطبيع كامل مع الكيان الصهيوني، وأمام حالة استسلام حقيقي.
أيها المرابطون في أكناف بيت المقدس وفي أرض الأنبياء، سأكون صادقا معكم، وصريحا معكم، لأقول لكم: لا تعولوا علينا، فنحن شعب عربي تقيده عمالة الحكام ورجعيتهم وخيانتهم المتجددة واستبدادهم وتبعيتهم للعدو، وقيود الحدود المصطنعة، فلا تعولوا علينا، واذهبوا انتم وربكم فقاتلوا إنا ها هنا منشغلون بحروب “ملوك الطوائف” ومجونهم، وبالحروب المذهبية المقيتة والطائفية والتشرذم. فدعونا لهزائمنا حتى نستفيق وننتفض على أنظمة الاستبداد والعمالة ونتخلص منها بإرادتنا لنلحق بكم، أو نبقى، كما نحن، مقيدين بأغلال الذل والمهانة، وواجهوا أنتم عدوكم بعزيمتكم التي لا تلين وقدموا القرابين لفلسطين ولحرية الأقصى وحيفا ويافا والجليل والنقب، فانتم وحدكم من يستطيع تحرير فلسطين وهزيمة الاحتلال والرجعية المتعفنة التي باعت فلسطين من قبل وتواصل اليوم بيعها في “صفقة قرن” يجب ان تكونون فيه المنتصرون.
لن تجدوا دعما عربيا أو إسلاميا سوى من “محور المقاومة” الذي واجه داعش والإرهاب والكيان الصهيوني وأمريكا وفتاوى علماء الصهيونية في عواصمنا.
ورغم إنهاكه بحروب متعمدة مولتها انظمتنا المتعفنة، إلا أنه وحده القادر على المواجهة والمؤمن بها والمصمم على مقارعة الاستعمار والصهيونية وأتباعهما. وهو مثلكم على استعداد للتضحية، لا يأبه بفتاوى علماء العفن ومجاهدي النكاح وإعلام العمالة. بل يستمع لنداء بيت المقدس وللشعب العربي المطحون أينما كان.
لا تتردوا في تقديم قوافل الشهداء قافلة تلو الأخرى، فمثلما عرى ترامب كل أنظمة العمالة والرجعية العربية بقراره الوقح فإنكم أنتم ستسقطون، بقوافل شهدائكم وبتضحياتكم، بقية الأقنعة وتحررون فلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر ومن الجنوب إلى الجنوب …. وربما تحررون الشعب العربي من المحيط إلى الخليج من قيود الذل والاستكانة لأنظمة الرجعية والاستبداد والعفن.