الإنصاف مع المخالفين

0
480
BEIJING, CHINA - DECEMBER 14: A man looks out across a park in heavy fog on December 14, 2004 in Beijing, China. The bad weather has made it harder for Beijing to achieve the target of 18 clear-sky days in December, laid out by the environmental protection campaign, which requires the capital to have clear sky for 62 percent of the year, equivalent to 227 days. Beijing has pledged to cleanse the skies before the 2008 Olympic Games. (Photo by Guang Niu/Getty Images)

( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة : (111)

زعمت اليهود أن لا أحد يدخل الجنة سواهم ممن اعتنق عقيدتهم واتبع ملتهم ، واعتقدت النصاري نفس الاعتقاد فلا أحد – في نظرهم – يدخل الجنة إلا من شيعتهم وأتباعهم ، لكن الله كذبهم واعتبر ما صدر منهم ( أماني ) فارغة يطلبها صاحبها ولا يدركها ، و أمر سبحانه نبيه الكريم – عليه الصلاة والسلام – أن يطالبهم بالبرهان ( الحجة والدليل الساطع القاطع المقنع ) على ما قالوا وزعموا إن كانوا صادقين . قال الزمخشري : ” هاتوا برهانكم : هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت ..” . تفسير الكشاف.

عجيب أمر هذا القرآن !! إنه يدعو إلى أعلى درجات الإنصاف وأسمى معاني العدل والاعتدال، وإلى الذوق الرفيع في مناظرة المخالفين مهما كانوا – حتى لو كانوا كفارا – و لو زعموا أمورا واعتقدوا عقائد في نظرنا – معاشر المسلمين – باطلة تافهة كاذبة لا قيمة لها !! كل ما هنالك ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) .

إن القرآن الكريم يربي في أتباعه عقلية منصفة منهجية موضوعية متوازنة ، تعتمد الدليل والبرهان في الحجاج والمجادلة بالحسنى ، وتبتعد عن مجرد اتهام المدعي و المخالف أو المناظر ووصفه بالضلال والكفر والفسوق والسخافة ..الخ .

” علم القرآن أهله أن يطالبوا الناس بالحجة ؛ لأنه أقامهم على سواء المحجة . وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه ، وعلى هذا درج سلف هذه الأمة الصالح ، قالوا بالدليل وطالبوا بالدليل ونهوا عن الأخذ بشيء من غير دليل ، ثم جاء الخلف الطالح فحكم بالتقليد ، وأمر بالتقليد ، ونهى عن الاستدلال على غير صحة التقليد ، حتى كأن الإسلام خرج عن حده ، أو انقلب إلى ضده ، وصار الذين يعلمون أن الإسلام امتاز عن سائر الأديان بإبطال التقليد ، وبالمطالبة بالبرهان والدليل ، وعلم الناس استقلال الفكر ، مع المشاورة في الأمر ، يطالبون المسلمين بالرجوع إلى الدليل ، ويعيبون عليهم الأخذ بقال وقيل ، ويا ليته كان الأخذ بقال الله ، وقيل فيما يروى عن رسول الله ، ولكنه الأخذ بقال فلان وقيل عن علان..” تفسير المنار.

إن القرآن الكريم – دستور ومنهج الحياة – ليفرق بين تقرير الحقائق وتقرير الحقوق ، فلكل منهما باب ومدخل ومبحث ، فحقيقة أننا – معاشر المسلمين – على الصراط المستقيم والبصيرة الواضحة ، وأن ديننا الحق الذي لا شك فيه ولا ريب ، و أن مخالفنا في ضلال مبين وجهل مستحكم ، لا ينفي أن يكون لهذا المخالف حقوق تستوجب الأخذ بها والتزامها من قبل أتباع الرسالة السمحاء ، ومن بين هذه الحقوق و أشرفها احترام ذات المخالف ومشاعره وكيانه ، ومراعاة آدبيات النقاش والحوار معه ، ومجادلته باللين وأخذه بالقول الحسن لعله يتذكر أو يخشي . فهؤلاء القوم – مدار حديث الآية – هم أنفسهم الذين قال الله فيهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) البينة : 6. ولم يمنع ذلك احترامهم و مناقشتهم بالدليل و مطالبتهم بالبرهان ومجادلتهم بالحسنى .

والمحزن في الأمر : أنك ترى اليوم مسلمين يتناظران في أمر شرعي فقهي ، أو فكري لا يتعدى كونه وجهة نظر في أمر من أمور فروع الدين لا من أصوله ، والذي يقبل في مثله الاجتهاد وتعدد الآراء ، فتسمع عبارات التشنيع والتبشيع على المخالف ، ووسمه بالضلال و الفسوق – وربما الكفر – أو الغباء وقلة العقل أو سوء النية وخبث الطوية وقائمة اتهامات لا حصر لها !. والمفروض أن يكون شعارهم ( هاتوا برهانكم ) بعيدا عن كل هذا . فهم الأولى بها والأحرى باتباعها مع المخالفين من أتباع دينهم و أبناء عقيدتهم وجلدتهم .

د.إيهاب برهم