الأزمات النفسية المؤسسة
أنصار بشار الأسد في هذه الحالة هم في العموم جمهور المحور الإيراني، فكلّهم في النتيجة، ومهما كانت آراؤهم في شخصه أو في حزبه أو طائفته أو نظامه، مؤيدون له في المعركة الجارية في سوريا، وقد استخدم هؤلاء ميكانيزمات دفاع نفسي لتبرير مواقفهم المؤيدة للنظام السوري، ولطمس الدوافع الحقيقية الكامنة خلف تلك المواقف، ويأتي اللجوء إلى هذه الحيل، نتيجة أزمات نفسية تعانيها قطاعات هذا الجمهور.
لو أخذنا مثلا اليسار الفلسطيني -وعليه يمكن قياس اليسار العربي المؤيد لبشار الأسد في هذه المعركة- فإننا سوف نقع على جملة من الأزمات النفسية، من أهمها التوتر الناجم عن الاعتياد على الشذوذ، فهذا التيار في أصل نشأته يتخذ موقفا معاديا للأمة تاريخا ومعنى، فاختط لنفسه معنى شديد المغايرة والغرابة، وأعاد تأويل التاريخ انحيازا للفرق الباطنية والانشقاقية في الأمة.
والشذوذ بالضرورة يقود إلى الكراهية، وكل منهما في حدوده المجردة يخلق ضغطا نفسيا هائلا، فكيف إذا قادا إلى معاندة الأمة بالانحياز إلى سفاح كبشار الأسد؟ ويضاف إليهما الشعور بالنقص، فهذا التيار من أكثر التيارات بؤسا في مجالنا العربي، فبعدما نضب مقولة وفعلا، لا يمكنه أن يعوض عن نقصه إلا بالصخب المناسب لشذوذه، وهو ما يتخذ تعبيرات مفرطة في الوقاحة والفجور في الخصومة.
ولو أخذنا مثلا أنصار إيران في فلسطين –وعليهم يمكن قياس أنصارها العرب المؤيدين لبشار الأسد-، فإنهم في مشايعتها درجات ابتداء من الجمود على لحظتها الثورية الأولى، والتوهم بأنها ظلت هناك، إلى الجمود على مقاومة حزب الله وعبوديته بتجسيد المقاومة حصرا فيه، إلى التشيع المذهبي. وتجسيد الثورة والمقاومة في طرف، كثيرا ما يجرّ إلى التماهي معه في كل شيء.
تتوتر أزمات هذا الفريق النفسية، بسبب عصبوية انحيازاته، فهو متوحد مع إيران ومع حزب الله، ولا سبب لانحيازه إلا هذا التوحد الذي لا ينطوي على أي قيمة سوى قيمة متوهمة تحول صاحبه إلى عبد تابع بعد تجسيد الثورة والمقاومة في طرف كل ممارساته في سوريا تتعارض مع الثورة والمقاومة، ولأن هذا الطرف يصير إلها، ولأن تصرفاته متناقضة مع شعاراته عن المستضعفين، و”الدم الذي يهزم السيف”، وكل هجائه لتاريخ الأمة، فلا بد من حيلة تهدئ التوتر الناجم عن تناقض “المثال”!
يمتد التوحد مع “المثال” ببعض من في هذا الفريق إلى التماهي المطلق، فيصير الانحياز مذهبيا طائفيا، وهنا تظهر نقطة التقاطع مع فريق اليسار من جهة الشذوذ عن جسم الأمة وما يستتبعه من كراهية، لاسيما وأن التماهي قد صار مع طرف تقوم مقولته المذهبية وتتغذى على الكراهية والانتقام من التاريخ الذي يراه حاضرا دائما في بقية الأمة.
الفريق الأول قيمه مادية بطبيعة الحال، والثاني تصير قيمه مادية طالما أنه يُصنّم مثاله، ولذلك فإن كلا الفريقين لا يريان الإنسان في المعركة، وإنما يريان الاعتبارات المادية فحسب، وينزعان عن المعركة أي بعد إنساني، فالخصم، قطاع رؤوس، عميل لأمريكا، ويمكنك أن ترى كل الدول والشعارات في المعركة إلا دوافع الناس الأولى للثورة، وإلا الضحايا من الأبرياء!
في الحيل النفسية
هذه الأزمات النفسية الناجمة عن التناقض والشذوذ تستدعي حيلا لحل مشكلاتها، ولتعزيز الموقف وتدعيم التبرير أمام النفس وأمام الآخرين.
أول تلك الحيل كانت الإنكار، ولم تكن هذه حيلة غير واعية للجمهور فحسب، بل استخدمها أحد رموز المحور الإيراني وهو حسن نصر الله، الذي كان ينكر في بداية الأحداث وجود أي شيء في سوريا، فحيلة الإنكار بالنسبة للجمهور حيلة غير واعية، وبالنسبة للقائد السياسي كذبة مقصودة، إذ ليس ثمة سبيل لفك التناقض حينها بين الشعار والممارسة، بين المتخيل والواقع، سوى بالإنكار.
لما استُنفدت هذه الحيلة مع تكشف الوقائع، وقد تبين بما لا يمكن دفعه أن رصاص النظام يحصد المظاهرات السلمية، كان لا بد من اللجوء إلى وسيلة أخرى للدفاع وهي هذه المرة إعادة تعريف القيم، مع نمط جديد من الإنكار، فنفوا الإنسان ومطالبه من الحدث الذي جرى تسييسه وتصويره محض مؤامرة كونية؛ الناس فيها مجرد أدوات أمريكية قطرية سعودية تركية.. الخ، وفي هذه الحالة تعلو المقاومة على أي قيمة أخرى! والضحايا الأبرياء لا وزن لهم في هذه المعادلة.
وقد سقطت هذه الحيلة مع الحرب في اليمن، إذ أعادوا من جديد الاعتبار للقيم الإنسانية، بل وأعادوا تعريف حتى القيم السياسة بما ينقلب على جوهر حيلهم في تبرير سلوكهم في سوريا، فصار ما فعلته السعودية في اليمن –بحسب نصر الله- أكثر مما فعلته “إسرائيل”، تماما كما صار خطر “داعش” –وبحسب نصر الله أيضا- أخطر من “إسرائيل” نفسها، وبهذا تبين أن ثمة اعتبارات سياسية وقيم إنسانية تعلو على الصراع مع “إسرائيل”!
لما تعاظم حضور “داعش” وقد استُنفدت تلك الحيل، وظفوا “داعش” حيلة يختبؤون خلفها، فاختزلوا كل الثورة السورية في “داعش”، وبالرغم من تعدد الفاعلين في الأطراف المقاتلة للنظام وحلفائه، وحصول الاقتتال بين “داعش” وأطراف في الثورة السورية، فقد بدا لي أن بعضا ممن يستخدم هذه الحيلة يفتقر إلى الوعي بهذا الميكانزيم الغريزي، إذ يتصور فعلا أن كل خصوم النظام من “داعش”!
تبدو لي هذه الحيلة غير الواعية لدى بعضهم مردّها إلى انحصار متابعته للحدث عبر منابر المحور الإيراني، ونتيجة توهم الطهورية في هذا المحور أو بعض فاعليه كحزب الله، والتوهم في الأساس مرجعه إلى الانحياز إلى درجة التوحد، أو تجسيد “المثال” في المحور.
بعد احتلال حلفاء بشار الأسد لحلب الشرقية، عبّر بعض من جمهور المحور الإيراني، بأن حلب قد جرى تحريرها من “الدواعش” و”قاطعي الرؤوس”، مع أنه لم يكن في حلب الشرقية أحد من “داعش”، فإذا ثبت لهم خطأ معلوماتهم، قالوا في حيلة من نفس جنس هذه الحيلة، بأن خصوم الأسد إما من “داعش” أو شبيهات “داعش”!
من حيل الدفاع لدى هذا الجمهور الادعاء بنسبية القيم، ولكن هذه النسبية ليست في القيمة نفسها ولكن في تطبيقاتها، إذ تتحدد وفق الأطراف المتصارعة، فطالما أن السفاح من الفريق الذي تؤيده فإن القيمة في هذه الحالة تتعطل، وغالبا ما تكون هذه الحيلة واعية، ويستخدمها المنتفعون أكثر من مسلوبي الوعي بهيامهم وذوبانهم في الفريق الذي يناصرونه.
تنبيه:
هذه المقالة لا تستمد شيئا من أفكارها من حقل علم النفس الذي ظهر لي أنه يعالج مفهوما كهذا صكّه سيجموند فرويد، إذ لا معرفة لدي بعلاقة هذا المفهوم بعلم النفس إلا بعد كتابة هذه المقالة، ولذلك اقتضى التنويه أن هذه المقالة تخلو تماما من أي ادعاء علمي بهذا الصدد.
ساري عرابي