في مقال لموقع «evonomics»، ناقش «ديفيد جريبر»، عالم الأنثروبولوجي بكلية لندن للاقتصاد، نظام العمل الحالي، موضحًا كيف يتحكم به أصحاب الثروة والسلطة، وسبب إهمال العاملين ذوي التأثير الحقيقي. ويرى جريبر أنه يتم إنشاء وظائف عديمة الفائدة فقط لجعلنا نعمل باستمرار.
تأثير التكنولوجيا على العمل
في عام 1930، تنبأ الاقتصادي الإنجليزي «جون مينارد كينز» أننا بنهاية القرن العشرين سنشهد تقدمًا تكنولوجيًا يجعلنا لا نعمل سوى 15 ساعة أسبوعيًا. بالنظر إلى التقدم التكنولوجي الذي وصلنا له، فإن هذا يبدو ممكنًا. لكن يبدو أن التكنولوجيا تم استخدامها لجعلنا نعمل أكثر، لذلك ظهرت وظائف لا فائدة منها.
لماذا إذن لم تتحقق «يوتوبيا كينز»؟ على الأرجح لم يضع كينز الزيادة الهائلة في الاستهلاك في حسبانه، فلو خُيّرنا ما بين العمل لساعات أقل أو المزيد من المرح واللعب فإننا سنختار الخيار الثاني، وهذا يؤدي إلى ظهور صناعات ووظائف جديدة، على الرغم من أننا شهدنا ظهور الكثير من الوظائف على مدار فترة تقارب القرن، إلا إن الكثير من هذه الوظائف يبدو بلا فائدة.
إذن ما هي هذه الوظائف الجديدة على وجه التحديد؟
عقَد تقرير صدر مؤخرًا مقارنة بين العمالة في الولايات المتحدة في عام 1910 وفي عام 2000، وأوضح أن أعداد العاملين في قطاعي الصناعة والزراعة قد انخفضت بشكل كبير، في المقابل، تضاعفت أعداد العاملين في وظائف إدارية وكتابية والعاملين في المبيعات والخدمات ثلاثة أضعاف، فأصبحوا يمثلون ثلاثة أرباع إجمالي العمالة. بمعنى آخر، فإن الميكنة احتلت الوظائف المنتِجة بشكل كبير، على الرغم من وجود أعداد كبيرة من العاملين في الصناعة، وخاصة في دول، مثل الصين والهند، إلا أن نسبة هذه الأعداد إلى إجمالي سكان العالم قد انخفضت عمّا كانت عليه من قبل.
لكن بدلًا من خفض ساعات العمل والسماح للعاملين بحرية أكبر، شهدنا زيادة في أعداد العاملين في قطاع الخدمات وفي القطاع الإداري، كما نشات مجالات عمل جديدة مثل الخدمات المالية والتسويق عبر الهاتف، وشهدنا توسعًا غير مسبوق في قطاعات مثل الإدارة الأكاديمية والصحية، والموارد البشرية، والعلاقات العامة. هذا بالإضافة إلى الذين تتمثل مهمتهم في تقديم الدعم الفني أو الإداري لهذه القطاعات، أو الوظائف التي ظهرت بسبب قضاء الناس أوقاتًا طويلة في العمل مثل عمّال توصيل الطعام، أو من يقومون برعاية الحيوان.
يرى الكاتب أن هذه الوظائف تافهة، عديمة الفائدة، كما لو أنها أُنشئت فقط من أجل أن يعمل الجميع باستمرار. ويتعجب الكاتب من وجود مثل هذه الوظائف في الأنظمة الرأسمالية، ففي الدول الاشتراكية القديمة، مثل الاتحاد السوفيتي، كان العمل يُعتبر حقًا وواجبًا مقدسًا في الوقت ذاته، لذلك كان من المنطقي أن تجد الكثير من الوظائف عديمة الفائدة، لكن من المفترض أن لا تتواجد مثل تلك الوظائف في الأنظمة الرأسمالية؛ إذ إنه لا توجد شركة هادفة للربح سوف تقوم بدفع الأموال لعاملين ليست بحاجة إليهم. على الرغم من ذلك، فإن هذه الوظائف موجودة.
عندما تقوم الشركات بتسريح بعض العاملين، فإن الاختيار يقع على الأشخاص الذين لهم دور هام في الإنتاج، بينما تزداد أعداد من يعملون في وظائف كتابية، وهؤلاء لا يعملون لمدة 40 أو 50 ساعة أسبوعيًا كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي، إنما يعملون بشكل فعال لمدة 15 ساعة فقط، كما توقع كينز، بينما يضيع ما تبقى من وقتهم في تنظيم ندوات تحفيزية أو حضورها، أو حتى على «فيسبوك».
يقول الكاتب إن المشكلة ليست اقتصادية، بل سياسية، فقد توصلت الطبقة الحاكمة إلى أن توفر وقت فراغ لدى الشعب يشكل خطورة كبرى عليهم. لذلك، أيدت الحكومات فكرة أن العمل في حد ذاته قيمة أخلاقية، وأن الإنسان الذي لا يسخر كل ما في طاقاته وإمكاناته؛ من أجل عمل يقضي فيه أغلب وقته لا يستحق أن ينال أي شيء.
أيّ الوظائف مهمة حقًا؟
ذكر الكاتب أنه لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي للقيمة الاجتماعية لكل وظيفة، لذلك قد يرى البعض أن إصداره الأحكام على بعض الوظائف بأنها غير مهمة أمر غير صائب، لكن ماذا عن هؤلاء الذين يرون أن الوظائف التي يعملون بها بلا فائدة؟ يروي الكاتب أنه قد التقى بصديق له من المدرسة لم يلتقيه منذ أن كان عمره 12 عامًا. عمل صديقه هذا شاعرًا، ثم مغنيًا في فرقة موسيقية، وكانت أغانيه رائعة ومبتكرة، وكان عمله سببًا في إسعاد الناس حول العالم، لكن بعدما فشلت بضع ألبومات للفرقة، خسر وظيفته وتراكمت الديون عليه، فاتجه لدراسة القانون وعمل محاميًا لإحدى الشركات. هذا الشخص يعترف بأن وظيفته عديمة الفائدة تمامًا، ويرى أنه لا يجب أن يكون لها وجود في الواقع.
إذا كان حوالي 1% فقط من سكان العالم يسيطرون على معظم الثروات، فإن سوق العمل يعكس ما يعتقد هؤلاء الأشخاص أنه مهم حقًا، وليس أي أحد آخر، والمهم أن أغلب الناس في هذه الوظائف يعلمون أنها غير مفيدة. يقول الكاتب إنه لم يقابل أي محامٍ متخصص في قانون الشركات من قبل لا يظن أن عمله مجرد هراء، وكذلك الحال بالنسبة لباقي الوظائف التي تحدث عنها الكاتب في المقال.
كيف يمكن أن يعمل شخص ما في وظيفة يعلم بداخله أنها بلا فائدة؟ لا بد وأن يتسبب ذلك في شعور عميق بالاستياء والغضب، فلماذا لا يحدث ذلك؟ يقول الكاتب: إن هناك قاعدة هامة في المجتمع مفادها أنه كلما كانت الوظيفة مفيدة للآخرين، كلما كان راتبها أقل. مجددًا، من الصعب العثور على طريقة موضوعية لقياس أهمية الوظائف، لكن أحد أسهل الطرق لمعرفة مدى أهمية أية وظيفة هو أن نسأل «ماذا سيحدث إذا اختفت هذه الوظيفة بأكملها؟» على سبيل المثال، لو اختفت الممرضات أو جامعو القمامة، فإن النتائج ستكون كارثية وفورية. إذا كان العالم بدون معلمين أو عمال الموانئ فإننا سنواجه عدة مشكلات، وحتى لو اختفى مؤلفو الخيال العلمي أو الموسيقيون فإن العالم سيتأثر، لكن لو اختفى جميع المديرين التنفيذيين أو خبراء التأمين أو العاملين في العلاقات العامة أو التسويق عبر الهاتف أو المستشارين القانونيين، هل سنتضرر حقًا؟ على العكس، قد يرى البعض أن المجتمع سيصبح أفضل إذا اختفى هؤلاء.
يمكنك أن تلاحظ في الصحف مدى الاستياء ضد عمال قطارات الأنفاق في لندن؛ لأن احتجاجاتهم تتسبب في شلّ الحركة في المدينة. في الواقع، حقيقة أن هؤلاء العمال يستطيعون شلّ الحركة تعني أن عملهم ضروري. على سبيل المثال، يظهر الجمهوريون في الولايات المتحدة سخطًا وحقدًا تجاه معلمي المدارس ـ وليس إداريو المدارس- بسبب «الأجور والمزايا الضخمة» التي يحصلون عليها، من وجهة نظرهم.
إذا كان هناك شخص قد صمم نظام العمل بالشكل الحالي من أجل سيطرة أصحاب رؤوس المال، فإنه قد نجح تمامًا، بحسب ما ذكره الكاتب. في المقابل، يتم إهمال الطبقة العاملة المنتجة واستغلالها. أما البقية، فهم إما عاطلون، أو يحصلون على أجر مقابل العمل في وظائف عديمة الفائدة، لكنها تجعلهم يشاركون الطبقة الحاكمة في آرائهم، وتعزز سخطهم ضد أي شخص يقوم بعمل له قيمة اجتماعية واضحة لا يمكن إنكارها. هذا النظام لم يُصمّم بشكل واعٍ، لكنه يفسر لنا لماذا لا نعمل ثلاث أو أربع ساعات يوميًا فقط، بالرغم من التقدم التكنولوجي الذي لدينا.