لا شيء، في غالب الحال، يخرج في هذه البلاد عن عباءة التجارة “المفترسة” و “المزايدة” الضارية اللتين لا تعيران للمعيارية السامية اهتماما، و لا للأخلاق الفاضلة وزنا، و لا لتعاليم الدين الحنيف مبلغا من الإتباع المحصِّن، و لا لمصالح الوطن أي مستوى من الخدمة البناءة.
في هذا الخضم الهائج بأمواج التغابن و الإقصاء و تهميش غير الأقوياء تجد “القيمُ” و “المبادئُ” نفسَها من أرخص جملة البضاعة سعرا و أكثرها امتهانا حتى ليُرى المثقف و هو يبيع
ـ على مرأى و مسمع من كل أطياف الشعب ـ لسانَه، يُحرف سلوكَه، يستعيرُ ألف وجه و وجه من دون أن يرمش له جَفن من خجل أو من تأنيب ضمير، كما يشاهد و هو يمشي على بطنه و ظهره كالزواحف لا يتوانى عن إتيان مكر بالمعرفة و خداع بها ليصيب فتاتا من مائدة الأقوياء أو رضا في وجوههم أو ركنا في حماهم.
و هي الوضعية المهينة التي تزيد مَفرزاتُ “القبلية” التراتبية و “العشائرية” الضيقة و التشكيلات “المافيوزية” النافذة و الماسكة بزمام المال و قنوات التجارة و غسيل الأموال و التعيينات “المحاصصية” قبضَتها إحكاما على مجريات الأمور في سفور الفساد و معيق التبذير لمقدرات البلد؛ مفرزات انتظمت في عشرات الأحزاب الوهمية و مِثلها من المنظمات الغير حكومية و الصالونات “الغرضية” و النوادي المريبة التي تتبنى التملق المرحلي نهجا.
و أما المعارضة بشقيها “المحاور” و “الممانع”، فإنها تبين عن ضعف عام و علامات استسلام متسارع الخطوات على وقع هواجس مذبذبة يطبعها التباين في الشكل و الوجهة و الهدف في هذا المنعطف الدقيق من مجريات الممارسة السياسية التي لم تحد يوما قيد أنملة عن ذات النسق الذي كان قائما منذ وفادتها على يد الاستعمار سنين معدودة قبيل الاستقلال ـ
فعلى قدر امتعاض المعارضة “الحادة” مما تدعي أنه سوء التعامل معها يتبين مثله من امتعاض أغلب أحزاب المعارضة المحاورة من ضعف اعتبارها و قلة حصادها.
إنهما الإحساسان المتباينان اللذان يصرفهما فعل انخفاض الحماس و الأداء على المستوى الفعلي و العملي من حيث خفوت الخطاب و تناقص الأداء الميداني.
صحيح أن السياسة في هذه البلاد ـ التي ظلت إلى غاية ولادتها القيصرية من رحم “السيبة”- غير معروفة ككيان له نواة من الحكم المركزي بأي شكل و جسم متماسك الخلايا، و أنها ليست تقليدا منظما في قوالب ثابتة. كما هو صحيح أيضا أنها لم تكن منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا قناعات راسخة ومبادئ سامية ترتكز حول محاور :
· مفهوم الدولة،
· الوطنية،
· قبول التخلي عن النظام الطبقي الجائر
· تصور الخطط التنموية بما حبا الله به البلد من منوع الخيرات و وافرها لصالح دولة القانون و العدالة و الديمقراطية. فالسياسة كما يعرفها “هارولد” هي عبارة عن دراسة السلطة التي تقوم بتحديد المصادر المحدودة، أو كما عرفها “ديفيد إيستون” بأنها عبارة عن دراسة تقسيم الموارد الموجودة في المجتمع عن طريق السلطة، و وصفها “الواقعيّون” بأنها فنٌّ يقوم على دراسة الواقع السياسي وتغييره موضوعيا، هي أبعد ما تكون في مسارها عند السياسيين في هذه البلاد من هذه التعريفات علما بأن السياسة جاءت متزامنة مع استقلال قُد لها على قدر الرغبة في الخروج من عباءة فوضى “السيبة” و لم تفلح في ذلك على الرغم من المعارف النظرية الغزيرة التي نهل منها المتعاطون و شهاداتهم العالية التي حصلوا عليها من كل أرجاء المعمورة.