الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ورضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فإن الهجمات الفكرة المتتالية على العالم الإسلامي كثيرة ومتنوعة ، وقد تمثلت في مذاهب هدامة زرعت زرعا في بلاد المسلمين ، وموضوعي محصور في (اللادينية ) التي يسمونها زورا (العلمانية )
ما العلمانية
ما الظروف التي نشأت فيها ؟
ما موقف الإسلام من العلمانية ؟
كيف نواجه العلمانية ؟
ما العلمانية ؟
العلمانية ترجمة خاطئة للكلمة الأجنبية secularism والكلمة الأجنبية laicite
وأدق الترجمات لها هي : اللادينية ومعناها نبذ الدين وإقصاؤه عن الحياة أو بتعبير دائرة المعارف البريطانية هي : ” حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها . ”
ما الظروف التاريخية التي نشأت فيها العلمانية ؟
وقد نشأت( العلمانية ) في أوروبا ردة فعل على الدين المحرف الذي كان سائدا آنذاك، والذي لا صلة له بالدين الذي أنزله الله ، فقد حاول رجال الدين في أوروبا أن يكونوا وسطاء بين الله وعباده ، ودين الله يقول ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ( سورة البقرة : 185 )
وقد أضفى رجال الدين على أنفسهم قداسة وعظمة ، وأحاطوا أنفسهم بهالة من الغموض والأسرر ، وأعطوا لأنفسهم حق التحليل والتحريم ، واتبعهم مقلدوهم – في ذلك ، واتفق الجميع على الشرك قال تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون . )( سورة التوبة : 31)
وقد اتفق السلف على أن معنى اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا أنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه .
وفي دين الله الحكم لله وحده ( إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ) ( سورة يوسف: 40) ( ولا يشرك في حكمه أحدا )( سورة الكهف : 26 )
وكان رجال الدين رجالا دنيويين تماما ، وكانت لهم أملاك واسعة ، وكانوا يديرون أموالا ضخمة ، يحصلون عليها عن طريق الهبات والوصايا والأوقاف .
وكانوا كما قال الله عز وجل عنهم ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله …)( سورة التوبة : 34 )
ودين الله لا يحرم على المسلم العمل والكسب بل يدعوه إلى ذلك ، ولكنه يحرم عليه استغلال الدين لمآرب دنيوية .
ودين الله يدعو إلى الاستغناء عما في أيدي الناس ، والتأسي بأنبياء الله الذين كانوا يعملون ويأكلون من عمل أيديهم ، ” ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داودكان يأكل من عمل يده . ” رواه البخاري
وقد بايع رسول الله صلى الله علي وسلم مجموعة من أصحابه رضي الله عنهم على أن لا يسألوا الناس شيئا فكان أحدهم إذا سقط من يده السوط لم يطلب من أحد أن يرفعه إليه .
وفقهاؤنا رحمهم الله اختلفوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن فالإمام أبو حنيفة يمنعه وكذلك الإمام أحمد
وقد كان السلف رضي الله عنهم حذرين من استغلال الدين كأشد ما يكون الحذر ، روى أبو نعيم قال خرج ابن محيريز إلى بزاز يشتري منه ثوبا ،والبزاز لا يعرفه ، وعنده رجل يعرفه ، فقال بكم هذا الثوب ؟ قال الرجل : بكذا وكذا ، فقال الرجل الذي يعرفه : أحسن إلى ابن محيريز ، فقال ابن محيريز إنما جئت أشتري بمالي ، ولم أجئ أشتري بديني ، فقام ولم يشتر .
وقد جاهدت الكنيسة من أجل بسط سلطانها ، وكان هدفها من هذا السلطان لا يتجاوز الأرض ، ومتاع الأرض ، بل إنها سمحت للقانون الروماني أن يحل محل دين الله وأعلنت مقولتها المشهورة أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله .
والسلطان في دين الله يجب أن يكون لتنفيذ شريعة الله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) ( سورة الحج : 39 )
وقد طغى رجال الكنيسة ففرضوا على العقول أن لا تفكر فيما خلقه الله تعالى في السماوات والأرض ، وفرضوا عليها أن تلتزم بما تقرره الكنيسة مما تدعي أنه حقائق علمية ،وقد عاقبت كل من خرج على آرائها بوحشية فظيعة ، فأحرقت برونو لما قال بكروية الأرض ، وحبست غاليلو حتى تراجع عن ذلك القول .
والمسلمون قد عرفوا كروية الأرض قبل كوبرنيكوس المتوفى سنة 1543 وبرونو المتوفى سنة 1600 وغاليلو المتوفى سنة 1642
فهذا ابن تيمية ينقل عن الإمام أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار ، من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد أنه قال : ” أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة . قال : ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب . ”
ويقول ابن تيمية نفسه ” وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة واستدل بقوله تعالى ( كل في فلك يسبحون . )( سورة الأنبياء :33) قال : الفلك الشيء المستدير واستدل بقوله ( يكور الليل على النهار ) ( سورة الزمر : 6)وقال التكوير التدوير . ”
وكانت أخلاق رجال الدين تصد الناس عن دين الله .
ثم كانت مهزلة صكوك الغفران .
ودين الله يقول : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ( سورة المدثر : 38)
ثم كانت محاكم التفتيش التي ارتكبت الفظائع الشنيعة ، ودين الله لا يعرف هذه الوحشية ، ولا هذا التسلط .
ثم كانت مساندة رجال الدين للظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتمثل في الإقطاع ( والإقطاع هو أبشع أنواع الظلم ، فأمير الإقطاعية حاكم مطلق يفعل ما يشاء ، وينفذ ما يريد ، هو السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية . )
لقدكانت العلمانية رد فعل على هذا الطغيان الكنسي- الذي لاصلة له بدين الله .
ودين الله يفرض على المسلم أحرى إذا كان عالما بالإسلام فقيها فيه أن يحارب الظلم والظالمين ، وأن يغير المنكر ، وأن لا يكون ظهيرا للمجرمين قال تعالى ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين )( سورة القصص: 86)
ويقول الله عز وجل عن موسى ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين )( سورة القصص : 16)
وأفضل الجهاد – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : “كلمة حق عند سلطان جائر . ”
والله تعالى يقول : ( ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) ( سورة المائدة : 64-65)
والسحت هو الرشوة .
ويقول تعالى (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) ( سورة هود : 116)
وقال تعالى( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) ( سورة هود : 113)
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يعزل من بلغه أنه عمل مع الحجاج ، فروى أبو نعيم عن جعونة قال : استعمل عمر عاملا فبلغه أنه عمل للحجاج فعزله ، فأتى يعتذر إليه فقال : لم أعمل له إلا قليلا ، فقال : حسبك من صحبة شر يوم أو بعض يوم .
كانت اللادينية – إذن- في أوروبا رد فعل على هذا الطغيان الكنسي ، وهذا التحالف الظالم مع الظالمين .
ثم جاءت اللادينية إلى العالم الإسلامي وافدة مع الاستعمار، وأصبحت لادينية (وطنية )في ظل عملاء الاستعمار .
ما ثمرات العلمانية في بلاد المسلمين ؟
وكان من ثمرات اللادينية في مجال السياسة : هذه الأحكام الفرعونية التي تؤمن بمقولة فرعون ( أنا ربكم الأعلى ) (سورة النازعات : 24) ( ما علمت لكم من إله غيري) (سورة القصص :38)
وتتبنى أسلوبه في انتهاج سبيل الإرهاب ( لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمُن أيُّنا أشد عذابا وأبقى ) ( سورة طه : 70)وطريقه في التهريج ( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى ) ( سورة النازعات : 23-24)
وكان من ثمرات اللادينية في السياسة أيضا التبعية الذليلة للغرب ، والخضوع لأوامره ، والسير في الاتجاه الذي يرسمه ، ومي موالاة يحرمها دين الله ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ( سورة المائدة : 53)( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ) ( سورة المائدة : 83)
وكان من ثمرات اللادينية في الاقتصاد تسليم ثروات المسلمين إلى أعدائهم من اليهود والنصارى والذين أشركوا بلا مقابل أو ( بثمن بخس دراهم معدودة ) تترف بها عصابة قليلة من أوليائهم وأحبائهم .
وكان من نتائجها في الاقتصاد هذه الديون التي تئن تحت وطأتها دول العالم الإسلامي ، والتي تزداد مع مرور الأيام نتيجة للتعامل الربوي ، ونتيجة لتلاعب” السفهاء ” بأموال المسلمين .
والله عز وجل يقول ( ولا تؤتوا السفها ء أموالكم التي جعل الله لكم قيما . ) ( سورة النساء : 5)
وكان من ثمرات العلمانية في التعليم أن نقلت المناهج الغربية إلى بلاد المسلمين -كما هي- بلا تعديل ،وزرعت الأفكار الغربية والتصورات الغربية ، عبر التعليم فتخرجت من هذا التعليم أجيال تتبع الغربيين شيرا بشبر وذراعا بذراع ، وتقلدهم في الأخلاق والسلوك والميول ، ولاتعرف من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، وتحققت للغربيين الآمال التي كانوا يعلقونها على التعليم ، فقد كانوا يعتبرون أن ” السبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي ، وعلى المبادئ الغربية ، وعلى التفكير الغربي ، والأساسُ الأولُ في كل ذلك هو أن يجري التعليم على الأسلوب الغربي ، وعلى المبادئ الغربية ، وعلى التفكير الغربي، هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره . ” كما يقول المستشرق جيب
وقد أحسن الشاعر إقبال عند ما قال : ” إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ، ثم يكونها كما يشاء ، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيرا من أي مادة كيميائية ، هو الذي يستطيع أن يحول جبلا شامخا إلى كومة من التراب . ”
وأبدع الشاعر أكبر الإله آبادي حين قال: ” يا لِبلادة فرعون ، الذي لم يصل تفكيره إلى تأسيس الكليات ، وقد كان ذلك أسهلَ طريقة لقتل الأولاد ، ولو فعل ذلك لم يلحقه العارُ وسوءُ الأحدوثة في التاريخ . ”
وكان من ثمرات اللادينية في المجتمع هذا التخلف المزمن ، وهذا الفساد المقيم ،وهذا الانحدار المستمر ، والتراجع المستمر .
لا شك – إذن- أن العلمانية مذهب هدام ، لأن تنحية الدين عن الحياة معناه باختصار : القضاء على المستقبل الأخروي والمستقبل الدنيوي .
ما موقف الإسلام من العلمانية ؟
الإسلام يرفض عزل الدين عن الحياة ، لأن الله تبارك وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط قال الله تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( سورة الحديد : 24)
وأرسل الرسل ليطاعوا ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )( سورة النساء: 63)
وأنزل الكتاب شاملا لكل شؤون الحياة ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لك لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) ( سورة النحل: 89)
وأمر بالحكم بجميع ما أنزل الله قال الله تعالى ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )(سورة المائدة : 51)
وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي خلفه نبي، وكان الربانيون والأحبار يحكمون بكتاب الله : التوراة .
والله تعالى يقول (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب و بما كنتم تدرسون ) (سورة آل عمران : 78)
والربانيون : جمع رباني نسبة إلى الربان وهو الذي يصلح أمور الناس ويربها ويقوم بها .
والرباني ُّ الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم . كما رجح الطبري
قال الطبري : ” معنى الآية ولكن يقول لهم : كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام وفرض وندب وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم وبتلاوتكم إياه ودراستكموه . ” وكل ذلك رفض للعلمانية
فالإسلام يرفض العلمانية لأن الإسلام دين شامل ، له شرائعه التي يجب اتباعها في كل مجال من مجالات الحياة ، وله تعاليمه التي تحدد للفرد سلوكه ، وتنظم له وقته ، وترسم له معالم الطريق وتعطيه ( دليل الحياة )
ومهمة الدولة في الإسلام حراسة الدين وتنفيذ أوامر الله والحكم بما أنزل الله ، وإقامة العدل طبقا لكتاب الله .
ووجود دولة علمانية في العصر الحديث يعني القضاء على الإسلام ، لأن الدولة الحديثة تتدخل في كل شؤون الحياة فإذا كان تدخلها بعيدا عن الدين تقلص ظل الإسلام ليأرز في النهاية إلى المسجد ، وامتد سمَوم الجاهلية ليحرق -في النهاية الحياة -والأحياء
كيف نواجه العلمانية ؟
ولمواجهة العلمانية لا بد من اتحاد المسلمين في مواجهتها وسبل الوحدة هي الاتفاق على برامج واضحة محددة في كل مجالات الحياة والسعي إلى تنفيذها .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.