مرّ ما يقرب من ربع قرن على الانطلاق الفعلي لقطاع التجارة الإلكترونية عالميًا، هذا القطاع الذي لم يلبث كثيرًا حتى استحوذ على جزءٍ ضخمٍ من حجم التجارة العالمي، لكن ما تزال ثورة هذا القطاع تشكِّل «صداعًا» مستمرًا في رأس منظمة التجارة العالمية -الكيان التجاري الذي يتحكم بنسبة 98% من التجارة العالمية- هذا الصداع يأتي من جانب فشل المنظمة حتى الآن في توحيد المفاهيم والمصطلحات المعنية بالتجارة الإلكترونية، وحماية المستهلك من الاحتيال، وتأمين أساليب مبتكرة للتحقق من هويات الأطراف المتعاملة بالتجارة الإلكترونية، من خلال رقابة وإشراف أكبر على هذه السوق.
وفي الواقع حققت التجارة الإلكترونية ازدهارًا متسارعًا خلال السنوات الماضية، خاصة في كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والاتحاد الأوروبي، وبعيدًا عن العيوب المشهورة لهذا النوع من التجارة يبدو أن هناك أضرارًا أخرى على الاقتصاد بدأت تظهر مؤخرًا مع النمو المتزايد للتجارة الإلكترونية، وتتمثّل عيوب التجارة الإلكترونية المشهورة في صعوبة الرقابة والمتابعة الحكومية خصوصًا، وزيادة عمليات القرصنة وانتشار المتسللين والمخترقين تشكك فى وسائل الأمن والحماية نظرًا لصعوبة متابعة الإنترنت وحظر هؤلاء وتحجيم عمليات سرقة الحسابات.
ولكن مع إعلان سلسلة محلات «تويز آر أص» الشهيرة التي تعمل منذ عام 1957 ولها فروع تصل لأكثر من 1500 فرع حول العالم إفلاسها، وقالت إن سبب الإفلاس يعود إلى نجاح المواقع الإلكترونية وبالأخص موقع أمازون، الذي نجح في تقديم منتجات أقل سعرًا من مثيلاتها في متاجر «تويز آر أص»، بات من الملح مناقشة الأضرار الحديثة على الاقتصاد جراء النمو القوي للتجارة الإلكترونية، خاصة أن «تويز آر أص»، تحدثت عن أنّ هناك شركات أمريكية أخرى تعمل على إعادة هيكلة عملياتها عبر إغلاق فروعها الأقل تحقيقًا للمكاسب وتركيز جهودها على التسوق الإلكتروني.
الشركة تقدمت بوثائق تشمل أصولًا وديونًا بأكثر من مليار دولار لكل منهما، إلى محكمة الإفلاس الأمريكية في ريتشموند بولاية فرجينيا، لكنها لم تعلن عن خطط لإغلاق متاجرها وقالت إنها ستواصل العمليات التقليدية، ولكن هل يمكن تحميل التجارة الإلكترونية مسؤلية هذه الأضرار؟، وهل هناك أضرار أخرى ناتجة عن انتعاش التجارة الإلكترونية؟
بقيادة «علي بابا» و«أمازون».. قفزة صاروخية وأرباح قياسية
في البداية وقبل الحديث عن الأضرار التي ظهرت مؤخرًا، يجب الحديث عن هذه القفزة القوية التي حققتها التجارة الإلكترونية في السنوات الماضية، ويمكن النظر إلى نموذجي «علي بابا» و«أمازون»، إذ أن ما حققته هاتان الشركتان يعدُّ إنجازًا بكل المقاييس.
تعد «علي بابا» الصينية الشركة الأكبر للتجارة الإلكترونية في الصين، وتتجاوز مبيعاتها السنوية 170 مليار دولار ويعمل بها أكثر من 22 ألف موظف، وعرضت الشركة أسهمها للاكتتاب العام أمام المستثمرين في بورصة نيويورك في 2014، حيث جمع ما يصل إلى 25 مليار دولار، مما جعل منه أكبر اكتتاب على الإطلاق، إذ يعمل بالشركة أشخاص في أكثر من 70 مدينة حول العالم، وتعمل الشركة بشكل رئيسي على تسهيل التجارة الإلكترونية بين الأفراد والشركات والتجار على الصعيدين العالمي والصيني.
مواقع «علي بابا» مسؤولة عن أكثر من 60% من الطرود التي يتم تسليمها بالصين وتمثل الشركة نحو 80% من التجارة الإلكترونية في الصين، كما أن خدمة الدفع الإلكتروني «علي باي» تتولى تقريبًا نصف التحويلات المالية الإلكترونية ضمن الصين، كما أن موقع تاوبو التابع لشركة علي بابا يعد من بين أكثر 20 موقع زيارة في العالم، والشركة عبارة عن موقع يستطيع فيه المستخدمون بيع بضائع لبعضهم البعض.
يشار إلى أن أرباح «علي بابا» قفزت بنسبة 96% على أساس سنوي في الربع الثاني من العام الجاري، حسبما قالت الشركة في تقرير نتائج أعمالها، ونشر على موقعها الإلكتروني، حث أوضحت أن صافي أرباحها العائد على المساهمين، بلغ في الربع الثاني من العام الجاري، 14.4 مليار يوان (2.17 مليار دولار)، كما ارتفعت الإيرادات على أساس سنوي بنسبة 56% إلى 50.1 مليار يوان (7.51 مليار دولار) خلال الربع الثاني من 2017، مقارنة بتوقعات المحللين المقدرة عند 7.12 مليار دولار.
وتستحوذ التجارة الإلكترونية على النسبة الأكبر من أرباح الشركة، إذ تشكل نحو 86% من إجمالي الإيرادات المحققة، مع تركز مشتريات الصينيين بشكل كبير عبر الإنترنت لتشمل كافة السلع متضمنة الأغذية والملابس، فيما بلغت مكاسب سهم «على بابا» أكثر من 81% منذ بداية العام الحالي.
وحول الشركة الأمريكية عملاق التجارة الإلكترونية، «أمازون»، والتي بدأت في يوليو (تموز) 1994 بولاية واشنطن، حيث قام بتأسيسها جيف بيزوس، خبير الحاسوب ورجل الأعمال، فيما تقدم الشركة آلاف السلع في صناعات متعددة كالملابس والإلكترونيات والسلع الرياضية والكتب ومواد التجميل وغيرها، وليس لها مكان على أرض الواقع، لكن لها مخازن تحفظ فيها للسلع حتى إرسالها إلى أصحابها على عناوين منازلهم أو عناوين مكاتب شركات الشحن.
وبالرغم من أن أرباح أمازون شهدت تراجعًا حادًا بسبب ارتفاع التكاليف خلال الربع الثاني من العام الجاري، إلا أن الشركة واصلت تحقيق زيادة في المبيعات، إذ بلغت أرباح الشركة 197 مليون دولار في ثلاثة أشهر انتهت في يونيو (تموز) الماضي، أي أقل من ربع ما حققته في الولايات المتحدة فقط خلال نصف الفترة من العام الماضي، فيما زادت نفقات أمازون إلى 37.3 مليار دولار، بارتفاع 28% على أساس سنوي، في ظل سياساتها بتجاهل العائدات ورغبتها في الإنفاق على التوسعات.
وتسعى منظمة التجارة العالمية بنهاية هذا العام للوصول إلى اتفاقية طموحة تضع أحكامًا متعددة الأطراف للتجارة الإلكترونية، فخلال العام الماضي، قدمت ما يقرب من 12 دولة عضوا في منظمة التجارة، ومنها الصين، وباكستان، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، سلسلة أوراق استهدفت وضع مفاهيم أساسية لاتفاقية مُقبلة للتجارة الإلكترونية، فيما تعتبر الصين حاليًا أكبر سوق في العالم في مبيعات التجزئة الإلكترونية.
وكان روبرتو أزيفيدو، قد كشف في ندوة عقدتها أونكتاد في جنيف في أواخر نيسان (أبريل) الماضي أن بين 2013 و2015، قفزت قيمة التجارة العالمية على شبكة الإنترنت من 16 تريليونا إلى 22 تريليون دولار، وأن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم تمكنت بفضل التجارة الإلكترونية أن تُقلِّل كثيرًا من تكاليف القيام بالأعمال التجارية عبر الحدود. وأضاف أزيفيدو، أن التجارة الإلكترونية وفرت منصة للمنتجين، وجمعت التجارة الإلكترونية تراكمًا من المبيعات الإجمالية يتجاوز 25 تريليون دولار في عام 2015، وفقًا لأونكتاد.
الجانب المظلم للتجارة الإلكترونية
يمثل نموذج إفلاس سلسلة محلات «تويز آر أص» الشهيرة، نموذجًا واضحًا على الجانب المظلم لهذا القطاع المنتعش، ففي الوقت الذي ينتفخ فيه حجم «علي بابا» و«أمازون» يختفي فيه الكثير من الشركات العريقة التي لم يعد بمقدورها المنافسة أمام مميزات لا يمتلكها سوى الكبار، فيما تؤثر كذلك على المنتج المحلي الذي لن يصمد أمام المنتج العالمي الذي بات في متناول الجميع عبر بوابة التجارة الإلكترونية، وهذا بالطبع له أثر سلبي مباشر على الاقتصادات الناشئة.
1- زيادة البطالة
ويُلاحظ أيضًا أنَّ استخدام التجارة الإلكترونية من شأنه أن يؤدِّي إلى الاستغناء عن الوظائف التقليدية وإحلال الوظائف المهارية الجديدة محلها، الأمر الذي يتطلب الاهتمام بتدريب العمالة على استخدام التقنية حتى تستطيع أن تدخل حلبة المنافسة وتفوز بوظائف، وهو الأمر الذي ينال أيضًا من الدول النامية، إذ تؤثر التجارة الإلكترونية سلبًا في الوظائف اليدوية وعلى العمالة غير المؤهلة، وهي الأكثر في دول المنطقة بشكل خاص.
يشار إلى أن أرقام البطالة تواصل الارتفاع في العالم خلال السنوات الأخيرة، وبعيدًا عن عدم وجود دراسات متخصصة ترصد مدى التأثير السلبي للتجارة الإلكترونية على الوظائف، ولكن بالنظر إلى النمو المتسارع وكذلك الخسارة التي تتعرض لها الشركات الأخرى، والتي تؤدي إلى إفلاسها فإن ذلك يعد مؤشرًا على هذا التأثير السلبي.
وبحسب تقرير صدر عن منظمة العمل الدولية مطلع 2017، يُتوقع ازدياد معدل البطالة في العالم من 5.7 إلى 5.8% خلال العام الجاري، أي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل بمقدار 3.4 مليون شخصٍ، ليرتفع عدد العاطلين عن العمل عالميًا في عام 2017 إلى أكثر من 201 مليون، وذلك وسط نمو اقتصادي مخيِّب للآمال على صعيد المستويات ودرجات الشمول، إذ يتوقع التقرير أن يظل العاملين لدى منشآت أُسرهم ولحسابهم الخاص، أعلى من 42% من إجمالي عدد العمال، وهو ما يعادل 1.4 مليار شخصٍ في عام 2017.
2- الاحتيال الديناميكي
زاوية أخرى من الجانب المظلم في تطور التجارة الإلكترونية، يرجع أيضًا إلى تطور أساليب الاحتيال، فمثلا التسعير الديناميكي وهو أسلوب جديد بدأت تتوسع في استخدامه شركات التجارة الإلكترونية لتعظيم أرباحها، ويقصد به ممارسة تجارية تعتمد على تغيير أسعار المنتجات المعروضة بشكل مستمر طبقًا لاعتبارات مختلفة،ليستكشف أخيرًا أعلى سعر قد يوافق المستهلك على دفعه مقابل سلعة معينة كما أن هذه الطريقة تسمح بالتكيف سريعًا مع معادلة العرض والطلب وتعزز الأرباح من مواسم الأعياد والمناسبات.
لكن سرعان ما تم الزج بهذا الأسلوب في ممارسات غير أخلاقية بحق المستهلكين، إضافة إلى أن الأسعار تتغير بوتيرة متسارعة لا تمكن المستهلك من معرفة ما إذا كان يحصل على قيمة جيدة من مشترياته دون أن يبحث بشكل عميق في مواقع أخرى، ووفقًا لتقارير صحفية، فقد تم رصد تغيير سعر أحد المنتجات على موقع أمازون 300 مرة في عام واحد، بالإضافة إلى أنه يمكن للشركات أن تبدأ عرض أسعار مختلفة على المستهلكين بناءً على بياناتهم الشخصية، وهو ما يعد نوعًا من الاحتيال ربما لن يكون موجودًا سوى بالتجارة الإلكترونية.
3- التهرب الضريبي
تبرز قضية صعوبة تحصيل ضرائب على أنشطة التسويق والتجارة الإلكترونية، بشكل كبير، إذ يبدو أن القطاع مناخ خصب للتهرب الضريبي، حيث لا تدفع كثير من الشركات ضرائب على أنشطتها، فعلى سبيل المثال، تخطط الحكومة التركيةلتشكيل وحدة خاصة بمتابعة أنشطة التجارة الإلكترونية والمعاملات في تركيا، بهدف معالجة المخالفات والمنافسة غير المشروعة بين شركات التجارة الإلكترونية، إذ قال ناجي أغبال، وزير المالية التركي، مؤخرًا، أنّ الحكومة التركية تعمل على إنشاء وحدة خاصة تضم 200 شخص لتتبُّع أنشطة التجارة الإلكترونية في البلاد، وقريبًا ستبدأ بمراقبة كافة المعاملات عبر الإنترنت.
الوزير قال إن بلاده حققت خلال شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) الماضيين مع 4 آلاف و275 شخص، تبين أن بينهم ألفًا و46 شخصًا لم يكن لديهم التزامات ضريبية، في حين كان نحو ألف شخص منهم متهرِّبين من الضرائب، وأضاف: «سنراقب التجارة الإلكترونية بشكل مُكثّف، وسنقوم بإنشاء وحدة خاصة لمراقبة كل معاملة تتم عبر الإنترنت، ومنصات التجارة الإلكترونية التي تقوم بشراء وبيع وتأجير العقارات، والسيارات، وكذلك السلع المُستعملة»، فيما يرى أن فرض الضرائب على التجارة الإلكترونية بات قضيةً متزايدة الأهمية في جميع أنحاء العالم، وليس في تركيا فقط.
4- البضائع المقلدة
باتت التجارة الإلكترونية البوابة الأكبر للبضائع المقلدة والمنتجات المزيفة في العالم، وهو الأمر الذي يكلف اقتصاديات العالم خسائر بعشرات المليارات سنويًا، فوفقًا لموقع «BuzzFeed» فإن مجمل ما بيع على موقع «علي بابا» وغالبيته من البضائع المقلدة، وصل إلى حدود 485 مليار دولار، فيما وصل مجموع ما بيع عبر أمازون إلى 136 مليار دولار.
وكانت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا)، قالت إن أكثر من 40% من البضائع الصينية المبيعة على الإنترنت، عام 2014، إما أنها مزيفة أو من نوعية سيئة، إذ كشف تقرير قدِّم إلى كبار المشرعين الصينيين، أن أقل من 49% من الأشياء المبيعة من خلال الإنترنت، في 2014، كانت «حقيقية أو من نوعية جيدة»، وهو ما أدى إلى ارتفاع شكاوى المستهلكين بخصوص طلبات الشراء عن طريق الإنترنت لنحو 77 ألف و800 شكوى في 2014، في قفزة كبيرة بنسبة 356.6% عن عام 2013.
واقع ومستقبل التجارة الإلكترونية في الشرق
الأوسط
تشير أغلب التوقعات إلى أن الشرق الأوسط ينتظره نمو قوي لقطاع التجارة الإلكترونية ربما يكون الأقوى في العالم، إذيتوقع أن ينمو نشاط هذه التجارة في الشرق الأوسط من 5.3 مليارات دولار في 2015، إلى أكثر من 20 مليار دولار بحلول 2020، وبنسبة نمو سنوية 30%، بحسب دراسة حديثة لمؤسسة «أي تي كيرني» الاستشارية، لتصبح المنطقة الأسرع نموًا في ملعب التجارة الإلكترونية في العالم لتسجل معدلات أعلى من نمو السوق العالمية على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وبحسب تقرير صادر عن شركة بيفورت، المختصة في تقديم خدمات المدفوعات الإلكترونية في العالم العربي، فمن المتوقعتزايد عمليات الدفع إلكترونيًا في المنطقة العربية لتصل إلى 69 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2020، أي نحو 3 أضعاف المستويات الحالية، بينما أظهرت دراسة أعدتها «مول فور ذا وورلد» المنصة الإلكترونية المتخصصة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي، فإن التسوق عبر الإنترنت قد يصل حجمه إلى 900 مليار دولار بحلول عام 2020.