تعمل البنوك وفق تراخيص وطبقا لنظم وضمانات، تتجنب بها المخاطر وتضمن انسيابية عملها؛ لست متخصصا في الميدان لكن يتضح لي من خلال معايشتي كمُتبنِّك ومُتَبَنّكٍ به أن المؤسسات البنكية، هي في الغالب تمارس لصوصية “محترمة” ومرخصا لها.
تولج في عملها رجالا ونساء متعلمين أنيقي المظهر يحافظون على ابتسامة موحدة مدروسة من الصباح إلى الرواح؛ لا يرى عليهم أثر السفر ويهتمون حد الهوس بالتفاصيل؛
كل همّهم ضمان أقل مستوى من الخسائر وأكبر ربح لمصارفهم في أية عملية.
مؤخرا كثُر الحديث في الجمهورية الإسلامية الموريتانية عن مزاحمة البنوك من قبل الشيخ الرضى (قد يكتبها البعض بالألف الطويلة) وعن دين الشيخ الرضى وعن توبة الشيخ الرضى وعن موكلي الشيخ الرضى ومكتب الشيخ الرضى.
في البداية كان الحديث عن انهيار سوق العقارات، ثم ما لبث أن تركز على انهيار سوق السيارات؛ تعرضتُ للموضوع بشيء من الاقتضاب وقرأت الكثير مما كُتب فيه بشيء من الإسراف؛ لكن تعالوا نستدرج ما حدث ونستنطقه.
الرجل بدأ منذ سبع سنوات يستدين ويقضي ثم يستدين ثم يقضي، وحتى قبل أيام من إقلاعه المُدوي عن المنهج ومراجعته المقاصدية العميقة في محاضرة منشورة؛ ظل مكتبه يستدين ويقضي.
أصدر الرجل تعليمات ناجمة عن مراجعة عالمة لمكتبه التجاري بالتوقف وجدولة ما كان وتسويته بما سيكون.
إلى هذا الحدّ لاشيء جديد؛ قصة من قصص الحياة أخذ فيها قائد رأي وزعيم عامة بأسباب علنية للرزق؛ يتخذها البشر والشجر والدول والشركات والقبائل والجماعات في أرض الله منذ الأزل لتدبير شؤونهم.
لكن طراز الشخصية موضوع الحديث هو مدار سيلان الحبر والريق والعرق في المنكب البرزخي هذا، فالشيخ الرباني الأربعيني وحيد أمه؛ الشيخ الرضى هو بحدّ ذاته مثير للتساؤلات ومَنسِج للحكايات ومربط للصياغات.
ولد على مسافة قرن ونصف من وصول جده شريف النسب إلى بلاد الله هذه، بعد عقد ونصف من انتظار أمه للحدث الأبرز، وعشر سنوات على انبثاق الدولة الوطنية.
بعد البلوغ ذاع صيته وجرت على يده الكرامات، رقّصه العالم الرباني گراي ولد احمد يوره رحمه الله حين مولده وأولاه عناية خاصة حين أريد له أن يكون ضمن تلامذته، جلساؤه وهم كثر-رغم ندرة خرجاته- ذكروا اتسامه بأخلاق العلماء وفواصل الأذكياء وتواضع البسطاء؛ كما يذكرون عنه إعجابه الشديد بالإمام المجدد الشيخ سيديا باب رحمه الله بل وميله إلى توجيه العباد إلى المعبود بدل صرفهم عنه (يتضح ذلك في تأليفه المشهور في تحقيق العبودية لله تعالى واتخاذه من دعاء: الله المستعان زبورا وغذاء) كما يؤكدون سعة اطلاعه ومزاولته الباذخة للكتب ويملك مكتبة هائلة قد تكون من أكثر العناوين المجمعة في البلد.
وقد بلغ إنفاقه في السر والعلن على المحتاجين وطلاب العلم وذوي الحاجات مبلغا مبيناً سارت به الركبان وتنفس به الشعر الغزير، كثير الخلوات قليل الجلوات يؤتي ماله؛ مُمَدّح ومقصِدٌ.
في بيته كرم تليد واحتقار متوارث للدنيا؛ ويتميز هو نفسه بالإحاطة بثقافة اگيدي التي تمجد التورية والاستعارة؛ مضيفا عليها خؤولة من أهل إينشيري مكنته من التحرر من ربقة المجاز وأحادية الرؤى؛ إضافة إلى مشارب تربوية كثيفة وذكاء حاد وأسفار طويلة خارج المجال الموريتاني.
في هذه الأجواء اضطر الشريف الشيخ الرضى إلى إحاطة نفسه بكفاءات شابة من مريديه ومحبيه ومقربيه فصار مؤسسة تربوية وإدارية ودعوية متكاملة.
أهم شيء في حياته العلمية والروحية تعظيم الله، وقد اتخذ من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محرابا، ينظم فيه الندوات العلمية الكبرى ويدون فيها ما يُلقى من مديح ليُنشر بشكل منهجي ومهني.
وبدا أنه اجتهد هروبا من كبيرة الربا التي عمت بها البلوى ونظرا للإجماع المنعقد على حلّية الدين؛ في أن ينظم حضرته وأنشطتها بأسلوب تقليدي.
من أبرز الانتقادات على الشيخ الرضى أنه لا يملك الضمانات التي تملكها البنوك حتى تنعقد صفقات “مضمونة” مع مكتبه.
وهو شيء يسلط الضوء على الضمانات البنكية نفسها، فالبنك الابتدائي في موريتانيا كما في غيرها يتم الترخيص له بوضع مبلغ معين في حسابه بالبنك المركزي يخول له التعامل بمبالغ غير محدودة، وحين تلعب مؤسسة أو شخصية معنوية أو جسمية ذلك الدور يتعذر القبول؛ لأن النظم الربوية غير قابلة للتحوير.
وهنا وُجِد الخلل؛ فالبنك لدينا وهو مؤسسة نائمة إلا عن الإيداع لا تشارك في التنمية ولا تمول المشاريع المتوسطة ولا الصغيرة ولا تأخذ بيد العاطلين؛ لكنها مستودع ومستصدَر للموجودات.
في حين أن عمل البر يتطلب قناعات وإرادات وحركية وورعا وزهدا ونضجا وشجاعة لا يمكن أن يتملكها إلا من كان في حل من الخطوط الحمراء التي تواضعت عليها البنوك التقليدية منذ استمراء واستشراء الربا في يوميات الناس.
والآن وقد توقف الشيخ الرضى عن الاستدانة وبدأ في القضاء لما حل، فستكتب أسفار من الخلود لهذا الرجل الفاضل؛ لا أعتقد أنها انكشفت بعد، لما أراد أن يعلم عاذليه ومريديه؛ من تفاضل بين شباك البنك وسجادة العبودية.