بين امتحانين/الاستاذ الخليل النحوي

0
273

أما التهنئة بالعام الجديد فعرف سائد له وجاهته بحسبان الإنساء في الأجل نعمة من نعم اللـه تعالى لمن يراجع حساباته لعام أو لأعوام خلت ويرجو أن يعمل خيرا فيما بقي له من عمر. وبذلك المعنى نستقبل ونرسل تهانئ العام الجديد مقرونة بالدعاء بالخير.

وعلى نحو من ذلك، يمكن أن ننظر إلى التهنئة بخطة أو وظيفة أو مقعد انتخابي، فوجه النعمة في ذلك – إلا أن يكون فتنة أو استدراجا، أعاذنا اللـه – وجه جلي، والمقام فيه مقام حمد للـه وشهود لمننه وآلائه؛ بيد أن في الفوز بمقعد يتنافس عليه الكثيرون شوبا يعكر صفوه.

حين هنأت عائشة الخثعمية سبط رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم سيدنا الحسن بالخلافة طلقها ثلاثا، رغم مكانتها عنده، لأنه لم يستسغ طعم الهناء في وقت العزاء. ومع الفارق الكبير بكل المعايير وفي كل أركان القياس، فإنني أجدني اليوم أتقبل التهانئ، شاكرا أحرى إذا اقترنت بالدعاء، وفي النفس شوب من شجن لا يدع في القلب مساحة فارغة يتمدد فيها الفرح الغريزي الذي يشعر به الإنسان عادة إذا خاض امتحانا ونجح فيه. لقد شوش على ذلك الشعورَ الغريزيَّ شعورٌ آخر ثقيل الوطأة هو الشعور بأن إخوة آخرين خاضوا الامتحان ذاته أو امتحانات مماثلة، ولم يصلوا منها إلى ما كانوا يبتغون. أشاطر اليوم هؤلاء همهم الذي يحملون، وأتطلع إلى أن يفوز أماثلهم في الشوط الثاني المتبقي، وإلى أن يعوضنا اللـه ويعوض الآخرين خيرا، وأنا العارف بأن منهم أكفاء علما وخبرة وإيمانا ووطنية، كم كنت أود أن تزدان بهم الغرفة التشريعية وغيرها من المجالس المنتخبة.

ورغم جرعة المصداقية التي تكتسبها العملية الانتخابية، أحرى إذا حسم القضاء بحق وعدل في دعاوى المتظلمين، فإن التجربة المعيشة – ولدينا منها شواهد – تؤكد أننا ما زلنا نتعلم، شأن الطفل يحاول أن يقوم فيقع ويحاول أن يمشي فيعثر، وربما تعمد أن يكسر الإناء الذي يشرب منه، ولا يبعد أن يكون لخطأ التعلم وعمده ضحاياه. لكن لا طريق لنا نسلكه غير مواصلة التعلم، بتصحيح الأخطاء وبمزيد التدريب، وبتقوية سلطان الوازع الديني والضمير الوطني والحس المهني في نفوس القائمين على عمليات الاقتراع وفي نفوس الناخبين والمنتخبين وسلطات الإدارة. ومن مقتضى الإنصاف أن نتوجه لهؤلاء جميعا بشكر يناسب مقدار جهدهم ومستوى إخلاصهم في تدبير الاقتراع الخماسي وتسييره في ظرف زمني ضاغط ومضغوط.

أعود لأخاطب كل من كبت بهم جيادهم، لسبب أو لآخر، بحق أو بغير حق، فلم يصلوا إلى المبتغى من هذا السباق العابر، أخاطبهم فأقول: ربما منعك فمنحك، وإن أمامكم وأمامنا جميعا المزيد من فرص النجاح المعينة على تدارك أضعاف ما فات في سائر دروب الحياة. لقد شاركتم بالمنافسة الإيجابية في اجتياز من اجتاز عتبة الباب، وسيظل نجاح من اقتحم العقبة منقوصا لا يكتمل إلا بكم: باعتقاد المعتقد وانتقاد المنتقد، بالنصح والتوجيه، بالمؤازرة وشد العضد في خدمة الوطن بصدق وإخلاص، وبالتنافس في الخير، وما أكثر سوحه بحمد اللـه. بكم وبنا جميعا ومعا، يرتقي الوطن كله في معارج النجاح، فلا أحد يمتلك الحقيقة كل الحقيقة دون أخيه، وصدق من قال: نصف عقلك عند أخيك. وصناديق الاقتراع تحدد من يشغل مقعدا مّا، لكنها لا تحدد بالضرورة الأكثر كفاءة ولا الأغزر عطاء، ولا الأصدق في إيمانه ووطنيته، فكم من قوي أمين لم تنصفه تلك الصناديق، وكم من حفيظ عليم لم يطرق لها بابا أصلا.

ولئن كان علينا أن نستحضر هؤلاء وأن نشاطر من خرجوا أو يخرجون، ولو إلى حين، من السباق الانتخابي، همومهم وإن دقت، فإنه لا مناص من لجم ذلك الشجن بلجام حكمة وتبصر، ومغالبته بوقفة حمد وشكر، فاتحتها الحمد لمستحقه، أهل الثناء والحمد، فله الفضل والمنة لا لغيره، وهو المستعان وعليه التكلان.

ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر اللـه، فلا بد، في هذا المقام أيضا، من تحية مزاجها شكر موفور تزجى بحقها إلى الذين وضعوا فينا ثقتهم، وأحسنوا الظن بنا.

تحية إلى حزب الغد، فقد كان بقادته ومناضليه ومناصريه، نعم الإطار لخوض هذا السباق الانتخابي. وقد تبوأ هذا الحزب بحمد اللـه – رغم حداثة سنه – موقعا متقدما بين الكبار، وحقق نتائج مهمة في أول تجربة انتخابية له.

والتحية موصولة إلى كل الأحزاب الوطنية التي شاركت في هذا الموسم الانتخابي وساهمت جميعا في رسم ملامح مرحلة جديدة من تاريخ بلادنا.

وإلى كل الأكف التي كانت وينبغي أن تظل مرفوعة إلى اللـه بضراعة من يعلم أن الفضل بيد اللـه يؤتيه من يشاء…

إلى إخوتنا الذين وعدوا فأنجزوا، وإلى الذين أنجزوا دون أن يعدوا، وإلى الذين وعدوا وإن لم يتمكنوا من الإنجاز، فرب كلمة طيبة جبرت كسور العمل وعوضت نواقصه، ورب أمل أنتج عملا…

إلى فاعلي الخير جميعا، ومنهم ذلك المواطن (هكذا سمى نفسه) الذي تبرع بمائة ألف أوقية، ورفض بقوة أن يذكر اسمه ولم يكن في الحاضرين من يعرفه…

إلى أولئك الذين قالوا إنهم يصوتون لأول مرة، ليس لحداثة سنهم وإنما لأنهم توقعوا خيرا من السباق الحالي، فخرجوا على عادتهم في اعتزال الشأن الانتخابي…

إلى السيدة الكريمة التي عادت من الحج، على عجل، لتغدو في اليوم التالي إلى مكتب الاقتراع، وتقف طويلا في الطابور لتصوت لمن لم تلقه ولم تتعرف عليه إلا من وراء حجاب، حسن ظن منها…

إلى أطفال صغار دعوا بفطرتهم للتصويت، وإلى والدة أعياها القيام فأصرت على أن تُحمَل لكي تصوت، وإلى أخرى أطالت السجود شكرا للـه….

إلى أخت كريمة ابتغت في الحملة، بصالح نيتها وحميد سعيها، ما كانت تبتغي في الحج. وإلى أخرى واصلت العمل يومين دون أن تغتمض عيناها، وهي تتابع عمليات التصويت…

إلى السيدات الكريمات اللواتي شكلن استثناء فنصبن بجهودهن الخاصة خياما قلائل لحملة لا خيام لها، ولو أن الناخبين وزنوها بعدد خيامها لما أعطوها خمسة أصوات، ولو أنهم وزنوها بعدد المهرجانات او الحفلات أو الزيارات الجماعية أو الاستعراضات، أو الوقفات بأبواب الناخبين الكبار، لما منحوها خمسة أصوات…

إلى المدونين الذين رسموا عنا بأقلامهم صورة هم أحق بها منا…

إلى المثقفين والأدباء والعلماء والإعلاميين وإلى كافة المواطنين والجنود المجهولين الذين قدموا لنا أصواتهم الثمينة على طبق من أريحية وثقة غالية لا يريدون بها جزاء ولا شكورا.

إلى الشباب الذين سدوا بنشاطهم الشبكي والإعلامي وحراكهم الميداني جزءا من عجز كبير في موارد الحملات ووسائل نشاطها التقليدية.

إلى المهنئين والمباركين الكثر من داخل الوطن ومن خارجه.

إلى كل هؤلاء، وإلى كل من ساندوا وآزروا ماديا ومعنويا، ممن علمناهم وممن لم نعلمهم {اللـه يعلمهم}، نتوجه بخالص الشكر ونضرع إلى اللـه أن يجزيهم عنا خير الجزاء.

ولهم، ولهن، جميعا أقول: نحن اليوم أحوج إليكم منا بالأمس، فلا تضنوا علينا بالدعاء والنصح والتوجيه والمشورة والمؤازرة المعنوية، لعل اللـه يبارك في سعيكم ويسمع دعاءكم فيكتب لنا التوفيق ويهيئ لنا من أمرنا رشدا في هذه المهمة الجليلة التي انتدبتمونا لها، والتي لا يجوز أن تحجب “نشوة” الفوز عنا أخطارها، فنقبل عليها لاهية قلوبنا، مخدَّرين بعبارات التهنئة والمباركة.

إننا اليوم – معشر المنتَخبين – ندخل في امتحان أكبر وأخطر، هو امتحان الأهلية بمعايير الأمانة والثقة والكفاءة والمصداقية والقدرة على العمل المشترك وعلى الاستفادة من أرصدة الخبرة والكفاءة التي توجد داخل المجالس المنتخبة وخارجها. ونحن، من هذا الوجه، في لحظة تساؤلات قلقة من هذا القبيل:

هل سنكون عند حسن ظن من انتخبونا؟

هل سنصدق اللـه ونصدق شعبنا في أداء مهمتنا؟

هل سنتمكن من إسماع أصوات المبحوحين والمهمشين، والسعي في مصالح المحتاجين ودرء المفاسد عن وطننا وشعبنا؟

هل سننجح في أداء عملنا بمهنية؟

هل سنتمكن من توسيع دائرة الائتلاف وتضييق هوامش الاختلاف فيما بيننا؟

هل ستكون رؤانا ومواقفنا وتصرفاتنا بحجم التحديات التي تواجه بلدنا وشعبنا وأمتنا ومحيطنا الإقليمي والدولي؟

هل سنتصرف من منطلق الإيمان بأن موريتانيا لنا جميعا وبأن صيانتها وتحصينها وتنميتها مسؤوليتنا جميعا، وبدون استثناء؟

هل سنُقطِع القضايا المصيرية الكبرى حيزا مناسبا من اهتماماتنا؟ أم سنغرق في تفاصيل الأحداث اليومية الجارية؟

هل سنتمكن من النظر في الأفق الفسيح لنستشرف الآتي ونحتاط له؟ أم سنظل أسرى لحظة عابرة شاردة لا نرى فيها مواطئ أقدامنا؟

هل سنتعلم من عثراتنا وأخطائنا وتجاوزاتنا، من تجاربنا وتجارب الآخرين من حولنا، من نجاحاتنا وإخفاقاتنا؟ أم سنكون كمن يمشي مكبا على وجهه، لا قدر اللـه؟

هل…. وهل….؟

أرجو وأبتهل إلى اللـه أن يهدينا سواء السبيل في هذا الامتحان الذي نرجع فيه من جهاد أصغر، مدته نحو خمس دقائق أو ضعفها خلف الستار، إلى جهاد أكبر، مدته – إن كتب لها أن تكتمل – خمسة أعوام على رؤوس الأشهاد.

أرجو أن يمدنا اللـه بعونه وتوفيقه لكي ننجح جميعا في هذا الامتحان، منتخبين وغير منتخبين، أحزابا وقوى وطنية وأهلية، وسلطات تمارس كامل صلاحياتها وتتكامل فيما بينها دون أن يعدو طرف منها على طرف.

ومن مقدمات النجاح الضرورية أن نطوي باكتمال لعبة السباق الانتخابي ما نشر فيها مما لا يصلح للاقتيات ولا للادخار، ومنه كل ما بدر من عنف لفظي، ومن أشكال عنف أخرى، نحمد اللـه على ندرتها.

لقد دعونا في البداية إلى حملة نظيفة لإيماننا بأن المنافسة في الشأن العام لا ينبغي أن تكون مشاكسة، وبأن الهدف النبيل يحتاج إلى وسائل نبيلة، ولوعينا بضرورة تنمية ثقافة الاختلاف، على أسس دينية خلقية وحضارية تقي من عشى الألوان الذي يحوّل كل اختلاف في الرأي أو الموقف أو تنافس في الشأن العام إلى صراع شخصي مزمن. وإذ نحمد اللـه على ما وفق المتنافسين أو بعضهم إليه من ذلك، فإننا نوجه الدعوة إليهم من جديد وإلى مناصريهم ليعملوا جميعا من أجل تنظيف الملعب من كل ما قد يكون علق به من درن، وليتعانق المتنافسون كما تتعانق الفرق الرياضية عند انتهاء المباراة، ولنعود جميعا إلى جهادنا الأكبر بصدور سليمة، لا غل فيها ولا حقد ولا حسد ولا ضغينة ولا دسيسة.

الوطن يحتاج إلينا جميعا فلنكن في خدمته جميعا، واللـه ولي التوفيق وعليه التكلان.

وآخر دعوانا أن الحمد للـه رب العالمين