ما عبر عنه رئيس المكتب السياسي لحركة ” حماس ” السيد خالد مشعل في مستهل كلمته في افتتاح مؤتمر حزب ” تواصل “، من امتنان الفلسطينيين لموريتانيا على مواقفها القوية والصريحة الداعمة لهم ولقضيتهم، لم يكن له إلا أن يعبر عنه، ونتحدث هنا عن دعم موريتانيا الرسمية لهذه القضية، لأن الدعم الشعبي لها معروفا وليس جديدا..
لكن الذي جعل دعم موريتانيا الرسمية للفلسطينيين وقضيتهم يختلف، هو أنه دعم لفلسطين والفلسطينيين بشكل يخدم قضيتهم، وليس ذلك الدعم الذي تقدمه أطراف عربية وإقليمية أخرى من منطلق سياسي إيديولوجي اصطفافي، يشتت الفلسطينيين داخليا بعد أن شتتهم الاحتلال خارج أرضهم، ويعمق الشرخ بين فصائلهم بدعم وتغليب طرف على طرف، وتقوية فصيل على حساب فصيل، ترسيخا للسياسة الإسرائيلية الممنهجة في تفريق الفلسطينيين، وإلهائهم عن قضيتهم بخلافات جانبية وصراعات داخلية، وإنما هو دعم للقضية والقضية فقط، يأخذ في الاعتبار تضحيات الفلسطينيين كل الفلسطينيين على مر التاريخ، ودون تجاوز لمرجعياتهم التي هم من وضعوها، وهم من يُغير أو يُبدل فيها.
وقد أحس الفلسطينيون بذلك الدعم الموريتاني الرسمي إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي تديره حركة ” حماس “، لتقوم موريتانيا بما هو في متناولها عمليا، وتعلن قطع العلاقات مع هذا الكيان الغاصب، تلك العلاقات الموروثة عن نظام سابق والتي ظل قطعها مطلبا شعبيا، لكن اتخاذ القرار به ظلت تتحكم فيه اعتبارات أخرى تتخذ من المصالح الحيوية لموريتانيا مشجبا في انتظار الإرادة والقناعة والجرأة على اتخاذه مهما كانت التبعات !
وأحسوه عندما بعث رئيس حكومة قطاع غزة إسماعيل هنية بمجموعة من الهدايا الرمزية لساسة موريتانيا تقديرا لمواقفهم اتجاه فلسطين وقضيتها في أعقاب ذلك العدوان، وكان نصيب رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز من تلك الهدايا مفتاحا ذهبيا للقدس الشريف.
وأحسوه عندما تقدمت دولة فلسطين بطلب العضوية في منظمة اليونسكو سنة 2011، فرمت موريتانيا بثقلها واستخدمت علاقاتها الإفريقية لحشد الدعم والتصويت لهذه العضوية، فتم قبول فلسطين عضوا كامل العضوية في هذه المنظمة الأممية، وخرج أفراد الجالية الفلسطينية في مسيرة بشوارع نواكشوط تحت شعار ” شكرا موريتانيا “.
وأحسوه عندما استخدم واستغل الرئيس محمد ولد عبد العزيز منصبه كرئيس للاتحاد الإفريقي، ومنع مشاركة مراقبين إسرائيليين في قمة الاتحاد في جمهورية إفريقيا الاستوائية سنة 2014 التي كانت تحت رئاسته.
وأحسوه عندما كانت فلسطين هي الدولة الوحيدة التي تُمنح أرضا شاسعة في أغلى مناطق العاصمة قيمة مجانا لتشييد مقر سفارتها وإقامة سفيرها بعد أن ظلت في مبنى متواضع قديم، والحفاوة الكبيرة التي استقبل بها الرئيس محمود عباس خلال زيارته وإشرافه على وضع الحجر الأساس لهذه السفارة رفقة الرئيس محمد ولد عبد العزيز في سبتمبر 2016.
وأحسوه عندما حرص رئيس الجمهورية في كلمة افتتاح القمة العربية بنواكشوط 2016 على التأكيد على أن كل الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية، مهما كانت جسامتها، لا يمكنها أن تزيح القضية الفلسطينية من مكانتها، وقال ” لقد أدت الأوضاع المضطربة التي تمر بها المنطقة العربية إلى اعتقاد البعض أن القضية الفلسطينية تراجعت في أولويات العرب بفعل الأزمات المتجددة، وهو ما شجع الحكومة الإسرائيلية على الزهد في عملية السلام والتمادي في سياسة الاستيطان “.
وأحسوه عندما قبلت موريتانيا، من بين جميع بلدان العالم، استقبال المناضل الفلسطيني راشد الزغاري على أراضيها نوفمبر 2016، بعد إطلاق سراحه من السجون الأمريكية بعد 30 عاما من السجن.
وأحسوه عندما انتصب مجسم المسجد الأقصى في نهاية شارع القدس عند ” الخالفه ” الشمالية الغربية لسفارة الولايات المتحدة الأمريكية في نواكشوط، بحيث لا يمكن لكاميرات مراقبتها إلا أن تلتقط ذلك المجسم ويبقى على شاشاتها، وبحيث لن يجد الأمريكيون بدا من عنونة سفارتهم في نواكشوط بشارع القدس الذي انتصب مجسمه هناك باعتباره عاصمة لفلسطين لا لإسرائيل !
وأحسوه عندما كان كل قادة ” حماس ” خلال زياراتهم لموريتانيا، رغم كونهم مدعوون من طرف حزب معارض حاد المواقف والأسلوب اتجاه النظام، يحظون بالحفاوة الرسمية والحماية المشددة من طرف الأمن الموريتاني، ولا تتأخر طلباتهم للقاء الرئيس أو قادة حزبه دقيقة واحدة.
وبالطبع أحسوه بالأمس عندما أمر رئيس الجمهورية مندوب بلاده في الأمم المتحدة بأن تكون موريتانيا من أوائل البلدان التي لا تساوم ولا تتردد في التصويت ضد قرار ” اترمب “، رغم تهديده ووعيده للبلدان التي تصوت ضد قراره، ورغم وعي الرئيس بتربص وجاهزية واستعداد أطراف هنا في موريتانيا لاستغلال أي موقف للولايات المتحدة ضد موريتانيا عقابا لها على موقفها، وركوب موجة ذلك الموقف الأمريكي في الإضرار بمصالح موريتانيا واستقرارها..!
هذه المواقف كلها، والتي بعضها رمزي وبعضها الآخر جوهري، هي بالطبع لا تكفي لتحرير فلسطين ولا القدس، لكنها هي أقصى ما يمكن لموريتانيا تقديمه بفعل موقعها الجغرافي البعيد عن قلب الصراع، وبفعل حجمها وإمكانياتها وتحدياتها الداخلية الخارجية. لكن أجمل ما فيها، كما قلنا، هو أنها مواقف خادمة جامعة للفلسطينيين وقضيتهم دون ترسيخ لانقسامهم أو تشتيت لنضالاتهم خدمة لأجندات سياسية عربية وإقليمية أخرى.
ولذلك لن يجد أي فلسطيني، أيا كانت منهجيته في النضال، بدا من الاعتراف بهذه المواقف المشهودة، والإشادة بمن جسدها وحرص على المضي فيها بدون مزايدة ولا ضجيج، وباستقلالية فريدة في بحر من الأحداث والمتناقضات، أي الرئيس محمد ولد عبد العزيز، حتى ولو قوبلت تلك الإشادة بهتاف وتصفيق في مناسبة وقاعة لم يُعدها أصحابها لذكر اسم الرئيس أحرى الإشادة بمواقفه..!