على مدار اليومين الماضيين خرجت عشرات الأخبار التي تتباين توصيفاتها لوقائع التظاهرات بمدن إيرانية، بين من يُقلل من هذه التظاهرات، وبين من يتعامل معها بالتمنِّى من خلفياته السياسية، وتصويرها وكأنها نهاية للجمهورية الإسلامية.
وسط هذا التضارب، وغياب مصادر موثوق فيها، يحاول «ساسة بوست» عبر التحدُّث مع مصادر من داخل إيران رسم صورة شاملة عن هذه التظاهرات، وما هى مآلاتها المستقبلية على نظام الرئيس الإيرانى حسن روحانى.
1- من هم المُشاركون في تظاهرات إيران؟ وما هي مطالبهم؟
تُمثل المجموعات الغالبة من المشاركين في التظاهرات الفئة العمرية الشبابية التى لا تتجاوز أعمارها 30 عامًا؛ ممن تتمثَّل مطالبهم الأساسية في تحسين أوضاعهم المعيشية، ورفع الأجور، وتخفيض الضرائب المفروضة علي المواطنين، والحدّ من ارتفاع الأسعار. هذه المجموعات تتباين خلفياتها بين محسوبين على التيار المحافظ، والمجموعات المناصرة للرئيس الإيرانى السابق، أحمدي نجاد، ومجموعات أخرى غير مصنفة.
التظاهرات:
حسب إفادة «فرح الزمان» الصحافية المتخصصة في الشأن الإيراني لـ«ساسة بوست»، فالمُحرك الأساسي لهذه الاحتجاجات اقتصادي بحت، منذ فترة وبعض الإيرانيُّين ممن خسروا أموالًا وضعوها في مؤسسات مالية للاستثمار، وهم يطالبون الحكومة بتحصيل حقوقهم، ولم يصلوا لنتيجة، إلا البعض ممن كانت مبالغهم قليلة، والذين أخذوا بالفعل حقوقهم. وتؤكد فرح كذلك أن احتجاجات طفيفة وبسيطة لهؤلاء شوهدت منذ أشهر قليلة.
وتوضح «فرح» التى تعيش في العاصمة الإيرانية طهران أن هذه الاحتجاجات تطوَّرت عقب أن قدَّم روحاني موازنته للعام الفارسي الجديد الذي يبدأ في مارس (أذار) القادم، وإعلانه عن رفع سعر البنزين، وهو ما ترافق وغلاء أسعار بعض المواد الغذائية. هذا هو ما جرّ المدنيين للشارع للمطالبة بحقوقهم وتحسين ظروفهم المعيشية. وتكمل فرح: «روحاني رفع شعاراتٍ اقتصادية في حملته الانتخابية، وهو ما جعله يفوز على منافسه المحافظ، ومن هذا الباب اعتبر بعض المحسوبين على الحكومة أن لهذه المظاهرات محرِّضًا داخليًا».
وتضيف فرح أنه بالرغم من إلغاء العقوبات والتحكُّم بالتضخُّم، لكن الأسعار لم تنخفض، بل عادت للارتفاع، سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار لم يتحسَّن، بل على العكس، والاستثمارات لم تتحول لواقع ملموس، وترافق كل هذا، وارتفاع نسب البطالة، وحتى الفقر.. هذا ما يعني الشارع في هذه المرحلة.
(2) كيف تناولت الصحف والسلطات الإيرانية التظاهرات؟
الوكالات الرسمية الإيرانية أكدت على خروج «العشرات» في احتجاجاتٍ بعددٍ من المدن الإيرانية وأمام جامعة طهران، كما دعت للتصدى في الوقت نفسه «للانتهازيين» الذين يرغبون في استهداف البلاد، من أجل مصالح خارجية. «المطالب الاقتصادية المحقَّة.. تغلغل عناصر مشتبهة ودعم ترامب»، كان هذا أحد التقارير التى نشرتها وكالة «تسنيم الدولية» الإيرانية، والتي تؤكد أنها تتعامل مع التظاهرات كواقع وانعكاس لعدد من المشاكل الاقتصادية؛ لكنها في الوقت نفسه تحذر من اندفاع هذه التظاهرات لمسار تريده دول معادية، حسب الوكالة.
الخطاب نفسه تماثل مع تصريحات لمسؤولين إيرانيين، كالمتحدِّث الأسبق باسم الخارجية الإيرانية حميد رضا آصفي، الذى ذكر أنّ الحكومة السعودية، ومعها أمريكا، تحاولان استغلال أجواء التجمعات والحرية الموجودة في إيران، مكملًا: «ولكنني واثق أن الشعب الإيراني لن يسمح لهم بفعل ذلك».
وبالتوازى مع ذلك، غطت وسائل الإعلام الإيرانية المسيرات «الحاشدة»، حسبما وصفتها، التي انطلقت في أغلب المدن الإيرانية اليوم «لتأكيد العهد على مبادئ الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه». وردد المتظاهرون، حسب وكالة تسنيم الدولية، شعارات منددة بالولايات المتحدة الأمريكية، والكيان الصهيوني، والتاكيد على اللُّحمة الوطنية في مواجهة التدخل الأجنبي في شؤون البلاد.
ويظهر تمييز السلطات الإيرانية لجموع المتظاهرين وخلفياتهم ومطالبهم كذلك، من خلال ما نشرته مستشارة الرئيس الإيراني الإصلاحية، معصومة ابتكار، عبر حسابها على موقع «تويتر» من صور لصفحات مغردين من السعودية والمعارضة الإيرانية ممن يدعمون الاحتجاج ضد النظام في إيران، وتقول: «الاعتراض على المشكلات لإجراء إصلاحات حق للمواطنين، لكن على المعترضين أن يعرفوا من أية جهة يتم إرشادهم ومن هو قائدهم».
يتأكد ذلك أيضًا، فيما صرح به المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمى، من أنّ «دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفر البنى الديمقراطية للدعم القانوني لمطالب الشعب المدنية، ومتابعة هذه المطالب أمر ممكن بالكامل في إطار الدستور».
(3) هل تُهدد هذه الاحتجاجات شرعية النظام الإيرانى أو ولاية الرئيس حسن روحانى؟
هذا الطرح مستبعد؛ وفقًا لحجم التظاهرات الحالية، وربطها بالسياق السياسى والاجتماعى التي تتحرَّك من خلاله. مصدرٌ آخر داخل إيران على صلةٍ وثيقة بالتيارات السياسية داخل إيران، يصف لـ«ساسة بوست» الاحتجاجات بأنّها «تظاهراتٍ بين أجنحة داخل النظام». ومجموعةٍ أخرى غير مصنفة. الجناح المؤثِّر الذي له الغلبة يتمثل في التيار المحافظ الذي مثَّله في السابق الرئيس الإيرانى أحمدي نجاد. هذا التيار أيضًا يسعى عبر تصريحات لرموزه لـ«عدم الاندفاع نحو الفتنة».
يؤكد ذلك ما تقوله «فرح» عن أنّ ما يهمّ المواطن الايراني هو اقتصاده بالدرجة الاولى وظروفه المعيشية، هذا هو الملف الأوَّل الذي يعنيهم منذ سنوات، أمَّا الشِّعارات التي تتعلَّق بدور إيران الإقليمي، فقد خرجت بالفعل على لسان بعض المحتجين من باب ضرورة التركيز على مطالبهم أولًا.
تشرح «فرح» تصوُّرها: «التداعيات ستكون على الحكومة بالدرجة الاولى، إن عرفت كيف تتعاطى مع المطلب الشعبي الاقتصادي؛ فهذا سيجعل روحاني في مأمن، ولكن الأمر مرتبط بمدى أبعد، فما يجري سيصبُّ لصالح المحافظين بالنتيجة، فهم من يتهمون روحاني بالانفتاح على الغرب، دون حصد مكتسباتٍ عمليةٍ تذكر، وهم يسعون لحصد أصوات أكبر في الانتخابات التشريعية المقبلة، ومن بعدها الرئاسية».
(4) من هو الرابح الوحيد من هذه الاحتجاجات داخل إيران؟
تشير الأحداث إلى أنّ تيار المحافظين في إيران هو الرابح الوحيد من هذه الاحتجاجات؛ فدعم رموز هذا التيار لهذه الاحتجاجات، ومنحها شرعية بمُشاركة كوادرها، ساهم في استعادة جزء من تأثيرهم، خصوصًا في ظل حاجتهم الشديدة لهذا التأثير في الانتخابات النيابية المُقبلة، وقدرتهم في الوقت نفسه على توجيه كوادرهم بعدم الاندفاع؛ منعًا لاتساع رقعة الاحتجاجات أو حتى أخذها بمنحى آخر.
دعم مكسب تيار المحافظين من وراء هذه التظاهرات، خلافات بعض رموز الإصلاحيين مع روحاني، ومن أبرزهم محمود صادقي، النائب الإصلاحي، الذي كتب عبر حسابه على موقع «تويتر»: «على الحكومة ألا تختبئ خلف نظرية المؤامرة في التعامل مع الاحتجاجات، وأن تلبِّي مطالب الشارع الذي من حقه أن يطالب بحقوقه بطريقة سلمية».
يتأكد ذلك في ما كتبه إبراهيم رئيس منافس روحاني الأشرس في الانتخابات الأخيرة، وأحد رموز التيار المحافظ، عبر حسابه على موقع «تويتر» الذي يرى «أنّ الإيرانيين، وخاصة الفقراء منهم، يعانون من ضغط المشكلات المعيشية، وتحقيق مطالبهم؛ سيؤدي لمساندتهم للحكومة بالنتيجة».
(5) هل تشهد إيران فعلًا معدلات بطالة واسعة؟
يوضِّح مركز الإحصاءات الإيراني أن نسبة البطالة بلغت نحو 12.4 % في العام المالي الجاري، وهو ما يمثِّل ارتفاعًا نسبته 1.4% عن العام الماضي. والتي تُقدر بنحو 3.2 مليون عاطل عن العمل في إيران التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة.
تتقارب هذه المعلومات مع ما ذكره الموقع الرسمى للبنك الدولى من أن معدَّل البطالة في إيران بلغ نحو 12.7% (أو 3.3 مليون عاطل عن العمل) وهو أعلى مستوى له خلال ثلاث سنوات في الربع الثاني من العام المالى 2016، على الرغم من ارتفاع معدل النمو في هذه الفترة. وتتوزع معدلات البطالة بين الذكور والإناث البالغة بالنسب التالية على الترتيب 21.8% و10.4%.
لكن المُحدد الرئيس للتظاهرات في المدن الإيرانية يتعلَّق بعدم تحقق رغبات المواطن الإيرانى نحو تطلعاته الاقتصادية، التي كانت شعار روحانى في حملته الانتخابية في مايو (أيار) الماضي؛ وذهبت التفضيلات لانتخابه على هذا الأساس؛ فالنسب المرتفعة من معدلات البطالة كانت موجودة خلال ولاية الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ومثلت حافزًا لانتخاب روحاني بديلًا عنه.
(6) هل يستطيع الرئيس الإيراني حسن روحاني احتواء هذه التظاهرات؟
إذا سألنا هذا السؤال؛ فستكون الإجابة: نعم. تنطلق قدرة روحاني على احتواء هذه التظاهرات من مجموعة أسباب مجتمعة. يأتي على رأس هذه الأسباب النمو الكبير الذي تحقَّقَ للاقتصاد الإيراني هذا العام؛ فإيران هي ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد المملكة العربية السعودية، بعدما بلغ إجمالي الناتج المحلي في عام 2016 حوالي 412.2 مليار دولار.
ويمنح هذا النمو روحاني القدرة علي تخفيف الأعباء المالية، ورفع أجور العاملين في الدولة، وإطلاق مجموعة من الإجراءات الاقتصادية قادرة على امتصاص هذا الغضب بين القطاعات الشعبية. يدعم ذلك التوقعات من جانب المؤسسات المالية الدولية التي تتوقع أن يرتفع رصيد المالية العامة في إيران بمقدار 1.2 نقطة مئوية إلى -0.4% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2016 نتيجة طفرة متوقعة في حجم الصادرات النفطية وزيادة موازية في الإيرادات غير النفطية، وأن يتحوَّل إلى تسجيل فائض في 2017-2018.
العامل الثانى في تفريغ هذه التظاهرات من مضمونها، حسب مصدر محلِّي يعيش أيضًا في طهران، قال لـ«ساسة بوست»: «إن هذا العامل هو: النفوذ الواسع لتيار المحافظين داخل إيران، الذين حركوا قواعدهم في هذه التظاهرات من أجل حصد مكاسب تشريعية لهذا التيار في الانتخابات المُقبلة، ثم سيتراجعون الآن، بخطابٍ داخلي بعدم التوسع في هذه الاحتجاجات لعدم إساءة استخدامها من جانب دول مناوئة تسعى لتخريب إيران».
يوضِّح المصدر: «هم يعرفون كيف يديرون الموضوع.. هو ذاته حدث في ٢٠٠٩، هم لم يثيروا الاحتجاجات.. ولكنَّهم يعرفون أن هناك امتعاضًا شعبيًا.. ولم يقفوا ضدّه، على العكس.. بعض مسؤوليهم أكدوا على ضرورة تلبية مطالبهم، وفي ذات الوقت حذروا من الفتن».
(7) من هم أكثر المحتفين بالاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي؟
كان السعوديون والإمارتيون حالة استثنائية في الاحتفاء بتظاهرات إيران، وتصويرها من خلال تغريدات عبر حساباتهم على موقع «تويتر» بأنها تطبيق واقعي للتصريح الذي نطق به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، منذ شهور عن نقل الحرب إلى داخل إيران.
هذا الاحتفاء امتدَّ لعددٍ من وسائل الإعلام المملوكة للسلطات التي تتبع الدولتين، التي رسمت صورة شاملة للتظاهرات كأنها «ثورة» على نظام المُرشد وسياساته العدائية تجاه دول الخليج. على سبيل المثال: كان أحد الأخبار الرئيسة التي أبرزتها جريدة «الرياض» السعودية «تظاهرات ليلية في مختلف المدن الإيرانية بشعار «استح يا خامنئي واترك الدولة»، بينما لم يجد محرر«ساسة بوست» من واقع التواصل مع مصادر محلية داخل إيران، أو عبر التقارير الأجنبية، شعاراتٍ كالتي عنونت بها الجريدة السعودية صفحتها الرئيسة.
«إيران الثائرة.. إصلاحات أفسدها الوليّ الفقيه»، كان هذا، أيضًا، ما تصدرت به بوابة العين الإماراتية التي أشارت ضمن تقاريرها إلى ثورةٍ داخلية على نظام «ولاية الفقيه»، وانشقاقاتٍ داخل الحرس الثوري الإيراني. الكيانات المعارضة لإيران هي الأخرى وجدت في هذه التظاهرات فرصةً للحضور إعلاميًا عبر وسائل الإعلام الخليجية، التي احتفت بتصريحات أعضائها، التي تركزت في أغلبها على «التواصل مع البيت الأبيض والحكومات الأوروبية؛ لوضعهم أمام التزاماتهم الأخلاقية بدعم الشعب الثائر الكادح ضد قمع ونهب وسرقات نظام (ولاية الفقيه) والعمل على إسقاطه».