حتى نهاية المعركة/ إسحاق الكنتي

0
274

من القواعد المرعية عدم تغيير الفريق الرابح، والاحتفاظ بالقائد أثناء المعركة تقديما للمصلحة العامة على نص يستمد شرعيته من ذات المصلحة. فقد اتفق أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على إخفاء كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد وتولية أبي عبيدة بن الجراح القيادة العامة لجيوش المسلمين، وعدم تنفيذه، حتى تنتهي المعركة؛ معركة اليرموك. فتعطيل نص الكتاب وعدم العمل به ،إلى حين، تقتضيه مصلحة المسلمين وهي المرجعية ذاتها التي يصدر عنها الكتاب. فقد قدّر عمر أن خالد بن الوليد يشق على المسلمين، خاصة بعد زحفه الأسطوري من العراق إلى الشام، لتعزيز صفوف الجيوش الإسلامية. يضاف إلى ذلك حرص عمر على صفاء عقيدة جنده، باستحضارهم الدائم لقوله تعالى (وما النصر إلا من عند الله)، وليس خالد وغيره من القادة من يجلب النصر. هذا التقدير للمصلحة العامة من قبل القائد الأعلى للأمة وهو في عاصمته يجتهد انطلاقا من محددات عامة ينبغي أن ينزل على الوقائع العينية المحددة ليطبق بما يلائم مصالح المسلمين في المكان والزمان المراد تطبيق النصوص فيهما. فإذا كان خليفة المسلمين ميالا إلى الرفق برعيته، فلا بد للقائد الميداني من بعض الشدة لضبط جنوده وقادته على أرض المعركة ليسود النظام والانضباط وتنفيذ الأوامر دون تهاون. وإذا كان الخليفة يخاف على الناس الافتتان بالأشخاص حفظا لعقائدهم فإن مصلحة جيش يستعد لمعركة فاصلة غير متكافئة تفرض إسناد قيادته للقائد الذي أثبت عبقريته في كل المعارك وشاع بين جنوده والمسلمين جميعا تلقيبه (سيف الله المسلول). فمن دواعي رفع معنويات الجند والقادة إسناد القيادة العامة إلى قائد لم يهزم قط، لا في الجاهلية ولا في الإسلام. وعبر التاريخ تحرص الأمم على عدم تغيير قادتها أثناء المعارك إلا إذا صدر منهم ما يستوجب ذلك. عملا بدروس التاريخ، وإكراهات الواقع اجتهد القائدان في تعطيل “النص” الصريح من الخليفة تقديرا للمصلحة التي صيغ النص تقديرا لها. وحين زال الواقع الذي اقتضى تعطيل النص تمت العودة إليه لأنه الأصل الذي ينطلق من مبادئ عامة (الرفق بالأمة، وسلامة العقيدة). ومن ثم فإن تعطيل النصوص الذي تقتضيه مصلحة راجحة لا يعد طعنا فيها، أو خرقا لها، وإنما هو تنزيل لها على الوقائع ليتحقق الغرض منها بإنفاذها أو تعطيلها أبدا أو إلى حين. وقد كان عمر رضي الله عنه سباقا إلى الاجتهاد في تنزيل النصوص على الوقائع فعطل حد السرقة عام الرمادة، وهو تعطيل إلى حين، وأبطل حق المؤلفة قلوبهم في الصدقات وهو تعطيل للنص مؤبد. (لا يقاس إنكار أهل الأهواء لحدي الرجم والردة على اجتهادات أمير المؤمنين لاختلاف المنطلقات والأهداف). ولذلك لم يسجل التاريخ أنه اعترض على تواطؤ قائديه على تعطيل العمل بكتابه إلى حين.
وفي نفس السياق نجد خليفة آخر، يقيل عامله بسبب التزامه كتابه في كل شؤونه! يحدثنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان حين استعمل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد سأله: كيف تسير في عملك؟ قال: ألزم كتابك ولا أعدوه. فقال معاوية: رد علي كتابي. وعزله. فالنصوص الوضعية ليست مرادة لذاتها وإنما هي تقييد لاجتهادات تبغي تحقيق المصالح التي هي من المتغيرات لذلك وجب تغيير النصوص الوضعية حين تتخلف عن تحقيق المصالح. أما تعطيل المصالح بالنصوص الوضعية فلم يقل به قائل من المشرعين ولا من الذين يناط بهم تطبيق النصوص بتنزيلها على الوقائع. وهذا أمر عام غير مقيد بزمان ولا مكان؛ فحيثما تعارضت النصوص الوضعية مع المصالح فقدت النصوص “شرعيتها” ليصار إلى تعديلها أو إلغائها. ومن العبث تحصينها أو تقديسها لأنها بذلك تصبح معطلة للمصالح التي وضعت أصلا لجلبها.
إن بلادنا اليوم تخوض معركة حقيقية ضد التخلف والإرهاب والفساد… فهل من الحكمة تغيير القائد، الذي ربح كل حروبه، أثناء المعركة!!! أم نتواطأ على تعطيل النص، كما فعل أبو عبيدة وخالد رضي الله عنهما، حتى نهاية المعركة… لقد أصر الشعب المصري على الاحتفاظ بقائده رغم النكسة.