حرمه ولد بابانا وشمّاعة الجنسية المغربية

0
273

الحمد لله وحده ولا يدوم إلا ملكه والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

على هامش القمة الإفريقية الملتئمة في نواكشوط عقد المسؤول الصحراوي السيد محمد سالم ولد السالك المشارك في هذا الجمع الكبير مؤتمرا صحفيا يوم 2 يوليو 2018 تضمن إساءة بالغة لرموز وطنية اعترف هو نفسه بأنها قيادات موريتانية بارزة ومشهورة، متهما إياها بالخيانة وهو مقيم على أرضها التي أحسنت استقباله ومتحدثا إلى شعبها الذي أكرم وفادته.

أوقفتْ صيحاتٌ غاضبة من صحفيين استرسالَ هذا المسؤول الصحراوي في سرده غير المألوف في الأعراف الدبلوماسية وتعرض بعد ذلك لهجمات شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي التي أعطت كذلك الفرصة لآخرين للنيل من هؤلاء الرموز وأصبحت الشبكة العنكبوتية مسرحا للتراشق بالسب والقذف والكلام الجارح.
ترددت كثيرا، على غير عادتي، في الردّ من جهتي على هذه الخرجة المذلة وذلك لسببين أولهما أن هذا المسؤول ضيف على دولة وشعب كريمين ليس من أخلاقهما إهانة ضيوفهما تحت أي ظرف كان، وثانيهما ما سبق من ودّ بين الأسرتين فقد كان والده المرحوم السالك بن عبد الصمد ضمن وفد الصحراء ممثلا لقبيلة اولاد تيدرارين الكريمة الذي بايع المرحوم حرمه ولد بابانا يوم 2 سبتمبر 1958 على النصرة وعاهده علي الدعم في جهاده ضد المحتل الأجنبي، كما أن هذا المسؤول تقاسم مع أسرة أهل حرمه “الخبز” في منزل العائلة بحي السويسي بالرباط حينما كان يتابع دراسته بكلية الحقوق في بداية السبعينات. والله يسأل عن صحبة ساعة.

وبالسرعة التي حسمت بها أمري تراجعت عما شرعت فيه عندما بادر المسؤول الصحراوي بتقديم اعتذاره عن الضرر الذي ألحقه بالموريتانيين واصفا ما صدر عنه بزلة لسان.
مع تفهمي لقوة الاندفاع الذي أثاره واجب الذبّ عن كرامة ومقدسات الأمة، وإنصافي لبعض المتحاملين على الرموز الوطنية لافتقارهم لجملة من المعطيات والحقائق التاريخية، ومع تجاهلي التام لتدوينات وتعليقات موزعي صكوك الوطنية وأدعياء احتكار مرجعية تحديد الخونة والعملاء، أكتفي هنا بتوضيح مسألة الجنسية المغربية التي كثر حولها الحديث في معرض التبرير والدفاع عن تصريح المسؤول الصحراوي، المستنكر لتخلى المرحوم حرمه ولد بابانا – حسب زعمهم – عن جنسيته الموريتانية واستبدالها بالجنسية المغربية.
بعد أن تصدر المشهد السياسي الموريتاني منذ سنة 1946، بدأ المرحوم حرمه ولدبابانا في ترتيب أمور الجهاد ضد فرنسا وكان ذلك قبل أن تدخل على الخط المملكة المغربية التي كانت حينها تحت الحماية الفرنسية. وأفصح من داخل الجمعية الوطنية الفرنسية في نهاية الأربعينات عن استعداده لحمل السلاح ضد فرنسا في اعتراضه على تقسيم فلسطين كما تشهد بذلك محاضر الجلسات البرلمانية الفرنسية الموثّقة.
بدأت بعض مساعيه السرية لإعلان الجهاد تخرج عن طيّ الكتمان كما نبّهت إليه السفارة المصرية في باريس التي عبّرت له بتاريخ 30 مايو 1956 عن مخاوفها من فشل خطة تهريبه خارج مناطق النفوذ الفرنسي وأطلعته على تقارير تضمنتها إحدى الصحف الفرنسية الصادرة في ذلك اليوم تتهمه بالتخطيط للقيام بهجمات مسلحة وشيكة ضد الأوروبيين المتواجدين في الصحراء وموريتانيا وتطالب بالإسراع باعتقاله.
ومما زاد في تأكيد تسرب المعلومات أنه في تلك الأثناء كان الرئيس الراحل المختار ولد داداه طيب الله ثراه مصابا بوعكة صحية. وخلال الزيارة التي أداها له المرحوم حرمه ولدبابانا يوم 5 يونيو 1956 في مستشفى الجامعة بباريس أخبره الرئيس المختار رحمه الله بأنباء أخذت في التداول حول عزمه السفر إلى الخارج للمطالبة باستقلال موريتانيا، مستفسرا عن مدى صحتها.
تمكّن المرحوم حرمه ولد بابانا من مغادرة باريس بمساعدة البعثة المصرية بالعاصمة الفرنسية يوم 11 يونيو 1956 متوجها إلى برن / سويسرا حيث كان على موعد مع المجاهد الجزائري فرحات عباس، وكان في استقباله عند محطة القطار السفير المصري بسويسرا. وفي اليوم الموالي أي 12 يونيو 1956 صدر البلاغ المشترك التالي الموقع من طرف الزعيمين فرحات عباس وحرمه ولد بابانا :
” بناء على اللقاءات والاجتماعات السابقة؛
وبناء على ما جرى بيننا من اتفاق على المسائل التي تهم تحرير الجزائر وموريتانيا؛
وبناء على تشابه ما يعانيه الشعبان من اضطهاد وكبت للحريات والإهانات،
وبناء على اليأس من كون أن الاستعمار الفرنسي لن يفهم إلا لغة السلاح،
فإننا اتفقنا وتعاهدنا على :
أولا- أن الجزائر وموريتانيا ستتعاونان وتكافحان حتى تتحرر موريتانيا والجزائر وتحصلان على استقلالهما؛
ثانيا- إذا تحرر أحد البلدين قبل الآخر فإنه يرسل جيوشه إلى البلد الذي يبقى في الكفاح؛
ثالثا- عندما يكون القادة الموريتانيون بالجزائر المكافحة فأنهم يُعَدّون من أعضاء جبهة التحرير والعكس بالعكس.”

ومن سويسرا توجه إلى مصربتاريخ 13 يونيو 1956 وكان في استقباله بالقاهرة ضابطان من جهاز المخابرات المصرية هما العقيد فتحي الديب والقبطان محمد فايق.استقبله الزعيم المصري جمال عبدالناصر رحمه الله بحفاوة كبيرة والتزم له بالدعم الكامل في سبيل حصول موريتانيا على الاستقلال. بدأ اتصالاته بقيادات جيش التحرير الجزائرية وفتح في اليوم الموالي لوصوله إلى القاهرة مكتبا لتحرير موريتانيا وتقابل هناك مع الزعماء الحبيب بورقيبة وأحمد بن بللا وعلال الفاسي رحمهم الله الذين أيدوه ووعدوه بالمساندة في كفاحه ضد المستعمر.

طلب المرحوم حرمه ولد بابانا من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله السماح له بالتوجه إلى المغرب من أجل بدء المقاومة المسلحة ضد فرنسا التي لم يكن ممكنا القيام بها انطلاقا من القاهرة. غير أن الزعيم المصري كان في كل مرة ينصحه بالانتظار إلى أن تتوفر الظروف المناسبة لتأمين حياته التي كانت في خطر. واستجاب الرايس المصري في الأخير لإلحاحه وغادر المرحوم حرمه القاهرة متوجها إلى المغرب عبر روما وإسبانيا ووصل إلى الرباط يوم 9 يوليو 1956.

بدأ تحركاته الجهادية بعد أربعة أيام من قدومه إلى المملكة المغربية وشكل جيشا لتحرير موريتانيا مكونا فقط من الموريتانيين الذين لحقوا به ومن بعض الصحراويين رافضا انضمام المغاربة وغيرهم إليه. وبدأت معركة الكر والفر مع الفرنسيين واستمرت حتى بعد حصول موريتانيا على الاستقلال يوم 28 نوفمبر 1960 الذي اعتبره جيش التحرير آنذاك استقلالا صوريا بفعل سيطرة الفرنسيين على القوات المسلحة والأمن والتواجد الفرنسي المكثف في كل مفاصل الدولة خصوصا بعد التوقيع على اتفاقيات التعاون الموريتانية-الفرنسية سنة 1961.
كان نشاطه العسكري موجها فقط ضد التواجد الفرنسي في موريتانيا كما كان يؤكد ذلك دائما في مراسلاته المتبادلة مع الرئيس الإيفواري هوفويت بوني والرئيس السينغالي ليبولد سيدار سنغور وخصوصا مع الرئيس المالي موديبو كيتا الذي فتح له أراضيه لتنفيذ بعض الهجمات المسلحة ضد الفرنسيين في شرق البلاد.
لم يكن المرحوم حرمه ولد بابانا صاحب فكرة ضم موريتانيا إلى المغرب التي نادى بها علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال قبل أن تطأ أقدامه الأراضي المغربية. ولا يمكن فهم حقيقة تبني هذه الفكرة قبل رفع السرية – وأرجو أن يكون ذلك قريبا – عن وثائق ما زالت محجوزة لدي السلطات المغربية والفرنسية.
وعندما خرج أخر جندي فرنسي من موريتانيا في منتصف الستينات طلب الزعيم – كما كانوا يلقبونه في جيش التحرير – من المغفور له بإذن الله الملك الحسن الثاني إعفاءه من كافة المناصب السياسية والإدارية بالمغرب باعتبار انتهاء مهمته وهي تحرير موريتانيا من الوجود الاستعماري الفرنسي على إقليمها واستأذنه في الهجرة إلى الديار المقدسة للتفرغ للدعوة إلى الله، بدعوة كريمة من المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. وهذه المعلومات كلها مدونة في خطاب وجهه إلى السلطات السعودية بطلب منها مسجل تحت الرقم 113 أ.خ.ع.و. بتاريخ 14 ذو الحجة 1398.
تخلّى المرحوم حرمه ولد بابانا بالفعل عن الجنسية التي كان يحمل سنة 1956 وهي الجنسية الفرنسية واستبدلها بالجنسية المغربية في ذلك الوقت الذي كان فيه المغرب الأقصى ملاذا للمقاومة التونسية والثورة الجزائرية.
لا يمكن إخفاء الدهشة من تعبير بعض المواطنين عن استنكارهم لما يرون أنه تخلّي المرحوم حرمه ولد بابانا عن جنسية وطنه. فلم يلاحظ هؤلاء أن الجنسية الموريتانية لم تكن موجودة آنذاك كي يتم الاحتفاظ بها أو التنازل عنها. بل أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية نفسها لم تكن موجودة قبل يوم 28 نوفمبر 1958 تاريخ إنشائها وكان جميع القادة والعمال والفاعلين السياسيين في موريتانيا يحملون فقط الجنسية الفرنسية، جنسية المستعمر، وأن الجنسية الموريتانية لم يتم إحداثها إلا بتاريخ 20 يونيو 1961 بموجب القانون 61-112.
كما أنه في هذه الفترة، أي تاريخ صدور قانون الجنسية الموريتانية، كان المرحوم حرمه ولد بابانا محكوما عليه بالإعدام من طرف فرنسا بسبب عملياته الجهادية ضدها كما اعترفت هي بذلك لاحقا في مرسوم العفو، وحكمت عليه موريتانيا بعد ذلك بالإعدام سنة 1962 لأسباب مماثلة نتيجة الهجمات المسلحة على التواجد الفرنسي في شرق البلاد في العملية المعروفة بـ “عمارة النعمة”.
لم يقتصر المرحوم حرمه ولد بابانا على حمل الجنسية المغربية فقد حصل كذلك، بالإضافة إلى الجنسية الفرنسية، على عدة جنسيات أخرى كالجنسية السينغالية والجنسية الغابونية. شأنه في ذلك شأن الموريتانيين المنتشرين في أرجاء المعمورة والذين يحملون، بصفة اعتيادية، جنسيات بلدان يقيمون على ترابها أو ازدادوا بأرضها كفرنسا وأمريكا وكندا ودول الخليج العربي وليبيا والجزائر والمغرب وبعض البلدان الإفريقية ويُسمح لهم بازدواج الجنسية كما هو منشور في الجريدة الرسمية الموريتانية التي لا يكاد يخلو عدد منها من سلسلة طويلة من المواطنين، مسؤولين كبار وأسرهم، الحاملين لجنسيات أجنبية. ليس في الأمر أي غرابة، فقوانين بلدان العالم تجيز ذلك. ولكن ما أن يُنشر أي موضوع وفي أي مجال يقتضي الحديث بصفة مباشرة أو عرضية عن المرحوم حرمه ولد بابانا أو أحد أبنائه حتى تُثار، بغرض التخوين، مسألة الجنسية المغربية دون غيرها من الجنسيات.
ما الفرق بين الجنسية المغربية وجنسيات بلدان العالم وما العيب في حمل الجنسية المغربية. الغريب أن أي من التعليقات المؤيدة والرافضة لتصريحات المسؤول الصحراوي، لم تشر إلى أنه وُلد في الأراضي المغربية غير المتنازع عليها، وأنه كان يحمل الجنسية المغربية، وبعد تخرّجه من كلية الحقوق بالرباط شارك كمواطن مغربي في مسابقة لم تكلل بالنجاح لاكتتاب القضاة وسافر بعد ذلك إلى فرنسا لاستكمال دراسته بمنحة من وزارة الداخلية المغربية.

أصدرت فرنسا في سبعينيات القرن الماضي مرسوما بالعفو عن المرحوم حرمه ولد بابانا ووصفت الأعمال التي قادت إلى إدانته بأنها من قبيل المقاومة المعترف بها للشعوب التي ترزح تحت نير الاستعمار. وسارت موريتانيا بعد ذلك على خطى فرنسا وأسقطت عنه حكم الإعدام مع أنه كان دائما يردد بأن الله عزّ وجل قد حكم عليه بالإعدام قبلهم. عندئذ حط الرحال في بلده وأخذ جنسية وطنه وأصبح يتنقل بجواز سفر موريتاني مع أن حقيبة يده كانت دائما تحوي جوازات دبلوماسية عديدة تكرمت بها بلدان شقيقة وصديقة.
استقر المرحوم حرمه ولد بابانا في العاصمة نواكشوط بعد أن نقل إليها أسرته من العاصمة السينغالية داكار معتزلا شؤون السياسة ومعرضا عن المناصب الإدارية.
وبعد الإطاحة بحكم المرحوم المختار ولد داداه في العاشر من يوليو 1978 أوفده رئيس الدولة المرحوم المصطفى ولد محمد السالك بتاريخ 2 أغسطس 1978 إلى ملك المغرب الحسن الثاني رحمه الله لإبلاغه بموقف موريتانيا الجديد من قضية الصحراء الغربية حاملا إليه رسالة موثقة جاء في مقدمتها : “يشرفني أن أبعث إلى جلالتكم صاحب السعادة السيد حرمه ولد بابانا العلوي، هذا المواطن الذي كان له الشرف بأن يكون أول شخصية موريتانية تهب من أجل الدفاع عن موريتانيا وإبراز شخصيتها المستقلة حيث وهب نفسه لخدمة الوطن والدفاع عنه، …، ونحن إذ نبعثه إليكم فذلك لأنه يتمتع بثقتنا التامة، كما يتمتع بكل الصلاحيات فيما سيقوله لجلالتكم عنا.”
ظلت مسألة الجنسية ذريعة للتنصل من إنصافه ورد الاعتبار كاملا إليه. فعندما تقدم بطلب مستوف لكل الشروط القانونية إلى السلطات الموريتانية سنة 1979 من أجل الحصول على حقه في المعاش جاء الرفض بإثارة الجنسية المغربية دون غيرها بيومين أو ثلاثة قبل أن تفيض روحه الزكية بين ذويه في منزله بنواكشوط ويسلمها إلى بارئها في مثل هذا اليوم، السبت 7 يوليو 1979، عن عمر يناهز سبعين سنة قضى منها عشر سنوات في المغرب وعشر سنوات في بلدان متفرقة وخمسين سنة في موريتانيا.

نعته وكالات الأنباء الدولية ورفضت سلطات بلده نعيه، متعللة دائما بمسألة الجنسية في الوقت الذي كان فيه إعلامها الرسمي يُذيع وينشر أخبار وفيات الأجانب من ممثلي هوليود ورجال الكوميديا الشرقيين وأبطال الرياضية الأوربيين، متناسية هذه السلطات بأن الفقيد ضارب بجذوره في أعماق هذه الأرض ويحمل رسميا جنسيتها وسُلّمت له شهادة بذلك بتاريخ 19 أكتوبر 1976 تحت الرقم 8097.
نُقل في نفس اليوم إلى قرية تُمْبَيْعِلِي المحروسة مسقط رأسه ووري جثمانه الطاهر الثرى بين آبائه وأجداده.

رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه وأنزله منزلة الشهداء ورفعه إلى مقام الصديقين وأسكنه فسيح جناته وألحقنا به غير ضائعين ولا مضيّعين ولا ضالّين ولا مضلّين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد في الأولين والآخرين والحمد لله رب العالمين.

د. محمد إدريس ولد حرمه ولد بابانا السبت 7 يوليو 2018