تعيش العلاقات الموريتانية السنغالية مرحلة من الفتور، إن لم يكن التوتر، وذلك على خلفية خلافات بين الطرفين تتعلق أساسا بملفي رخص الصيد للسنغاليين في المياه الإقليمية الموريتانية، ودخول قطعان الموريتانيين إلى الأراضي السنغالية خلال فصل الصيف، تزامنا مع تراجع الغطاء النباتي داخل موريتانيا.
وتعود الاتفاقيات بين البلدين في هذا المجال لعقود استقلالهما، وخصوصا عقد السبعينات، وإن كانت اتفاقية الصيد عرفت عدة تحديثات لمضامينها خلال الفترة السنوات الأخيرة.
وظهرت بوادر هذه الأزمة بين البلدين عدة مرات خلال السنوات الماضية، غير أنهما كانا في كل مرة ينجحان في احتوائها، وتجاوز الوضع، والعودة بالعلاقات إلى سابق عهدها.
بداية التصعيد
وتعود بداية الأزمة الحالية لشهر فبراير الماضي، حيث أوقفت موريتانيا صيد القوارب السنغالية في مياهها، وكان قرارها مصحوبا بأوامر لرجال الأمن بعدم استخدام الرصاص في مطاردة القوارب السنغالية المخالفة.
وكانت موريتانيا قد أجرت تقييما لحجم عائداتها الاقتصادية من الصيد الذي يمارسه الصيادون السنغاليون في المياه الإقليمية الموريتانية، حيث كشف التقييم أن الصياديين يأخذون سنويا حوالي 50 ألف طن، في حين أن ما تدفعه السلطات السنغالية لموريتانيا لا يتجاوز 250 ألف يورو، وهو ما رأت السلطات الموريتانية أنه يبدو كما لو كان تعويضا رمزيا، حيث لا يتجاوز سعر الطن – بهذا العائد – 50 أورو فقط، ويعني ذلك أن كلغ السمك يصل السنغال بسعر لا يتجاوز 20 أوقية.
وجاء التقييم الموريتاني لعائدات الصيد من اتفاقها مع السنغال في إطار ما تصفه الحكومة الموريتانية بعملية التحديث الشاملة لنظم الصيد في موريتانيا، وخصوصا مدونة الصيد، حيث تم اعتماد تقسيم للصيد، يحدده في نوعين:
1- الصيد الأجنبي: ويلزم العاملون فيه بإفراغ حمولتهم في سفن في البحر تحت مراقبة السلطات الموريتاني، حيث تتأكد السلطات من موافقة حمولتها للقوانين الموريتانية، وعيناتها، وما إذا كانت مرخصة للزبون الأجنبي، وفق الاتفاق الموقع بين الطرفين.
وقد طبقت موريتانيا هذا الأمر على السفن الأجنبية العاملة في مياهها الإقليمية، وغرمت السفن التي سجلت عليها مخالفات، وصادرت كمياتها، حيث تقوم بتوزيع هذه الكميات في المدن الداخلية بأسعار مخفضة، كما سعت لاقتناء تجهيزات للبحرية لمراقبة المياه الموريتاني.
2- الصيد الموريتاني (وهو الذي يعمل فيها موريتانيون بآليات موريتانية)، وقد تم إلزامهم بالتفريغ في الشواطئ الموريتانية قبل بيع الكميات التي حصلوا عليها.
حيث يتم معرفة مدى مطابقتها للقوانين الواردة في مدونة الصيد الموريتاني.
خصوصية سنغالية
السلطات الموريتانية – حسب مصادر دبلوماسية – أبلغت السنغال تزامنا مع هذا التنظيم الجديد، أنها ستمنحها خصوصية تميزها عن بقية الأجانب العاملين في مجال الصيد، وتمثلت هذه الخصوصية في صيغة وصفت من طرف موريتانيا بأنها تشبه الصيغة الممنوحة للصيادين الموريتانيين، وتمثلت الصيغة المقترحة من موريتانيا بإنشاء ميناء شبه خاص في مدينة انجاكو (15 كلم من السنغال)، يفرغ فيها الصيادون السنغاليون حملتهم وتراقبها السلطات الموريتانية قبل توصيلها إلى السنغال.
وقد رفضت السنغال هذه المبادرة من الحكومة الموريتانية، وأبقت موريتانيا رقابتها على الصيادين السنغاليين في عمق المياه الموريتانية.
وقد أصدرت الحكومة الموريتانية – حسب مصادر رسمية – أوامر لأفرادها بتجنب استخدام الرصاص الحي خلال مطاردة القوارب السنغالية التي تصيد بشكل مخالف للقوانين في المياه الإقليمية الموريتانية.
وأدى الوضع الحالي لحصول احتكاكات بين الأمن الموريتاني والصياديين السنغاليين، أدت لحالات وفاة في بعض الأحيان.
طرد القطعان
الوجه الآخر للأزمة السياسية بين البلدين يتعلق بقطعان الحيوانات المملوكة لموريتانيين، والتي اعتادت دخول الأراضي السنغالية مع بداية انقشاع الغطاء النباتي في الأراضي الموريتانية، والبقاء فيها لحين عودته مع بداية فصل الخريف.
ويرتبط الجانبان باتفاقية في هذا المجال، تحدد المواقيت الزمنية لدخول القطعان وخروجها، وتعود للعام 1974، غير أن الأوضاع على الأرض كانت تأخذ مناحي أخرى قد تبتعد كثيرا عن نصوص الاتفاقية بين البلدين.
وأقام البلدان لجنة مشتركة بينهما لإدارة الثروة الحيوانية بينهما، ولها اجتماع سنوي لنقاش مستجدات الملف، وكان آخر اجتماع لها في مايو 2015، ومن الخلاصات التي توصلت لها حينها أن تقوم كل دولة بإحصاء ثروتها الحيوانية في البلد الآخر.
وقد تأخر اجتماعها للعام 2016 عن موعده في مايو، حيث كان مقررا أن يتم في العاصمة السنغالية داكار، غير أن الأخيرة لم تدع إليه، كما أنها – حسب المصادر الموريتانية – لم تقم بإحصاء ثروتها الحيوانية الموجودة على الأراضي الموريتانية.
وقد قامت موريتانيا بإحصاء ثروتها الحيوانية على الأراضي السنغالية، تطبيقا للتوصية الصادرة عن اللجنة المشتركة بينهما، كما أحصت الثروة الحيوانية السنغالية على الأراضي الموريتانية، وقدر الإحصاء أعداد الثروة الحيوانية الموريتانية على الأراضي السنغالية بـ10 آلاف رأس من الإبل، فيما قدر عدد الثروة الحيوانية السنغالية على الأراضي الموريتانية بـ10 آلاف بقرة.
قرار بالإبعاد وتراجع..
بداية شهر يوليو الماضي قررت السنغال إبعاد قطعان الإبل الموريتانية، وذلك في وقت واحد، وهو أمر كان يقع سابقا لكن بشكل متدرج، وهو ما أبدت مصادر موريتانية استغرابها منه، وكذا من مستوى الصرامة فيه.
وقد أكد الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في تصريحات من مدينة روصو الحدودية مع السنغال احترام موريتانيا لقرار السنغال بإبعاد قطعان الإبل الموريتانية، ووصفه بـ”القرار السيادي”، مؤكدا أن موريتانيا ستحترمه.
وتراجعت السنغال لاحقا عن قرار طرد القطعان الموريتانية، وذلك بعد محاولة منها للحصول على مبادرة من موريتانيا لنقاش الموضوع معها، والتراجع عنه بموجب اتفاق معها، غير أن الحكومة الموريتانية اكتفت بالتصريح الذي ينص على احترامها للقرار السنغالي، ووصفه بأنه “قرار سيادي”، حيث أعاد التصريح ذاته الناطق باسم الحكومة الموريتانية محمد الأمين ولد الشيخ.
اتهام بالإخلال
وتتهم موريتانيا السنغال بالإخلال بالعديد من النقاط المتفق عليها بين البلدين، وبتعطيل اجتماعات اللجان المشتركة بينهما، والمسؤولة عن تذليل الصعاب في مختلف مجالات التعاون بين البلدين.
وترى موريتانيا أن السنغال تعطل – إلى الآن – “الاجتماع السنوي للجنة المشتركة لتسيير الثروة الحيوانية، والذي كان يجب أن يتم في داكار مايو الماضي، كما تعطل الاجتماع السنوي للولاة المقرر في السنغال، وكذا الإجراءات المتفق عليها بقيام كل بلد بإحصاء ثروته الحيوانية في البلد الآخر”.
وتؤكد السلطات الموريتانية أنها قامت بإحصاء ثروتها الحيوانية على الأراضي السنغالية، كما قامت بإحصاء ثروة السنغال على أراضيها، وعبرت عن احترامها لقرار السنغال طرد قطعان الإبل الموريتانية، كما أصدرت أوامر صارمة لرجال أمنها بتجنب الرصاص الحي أثناء مطاردة القوارب السنغالية التي يتم رصدها في المياه الإقليمية الموريتانية بشكل غير قانوني.
وشددت مصادر موريتانية تحدثت لصحيفة “الأخبار إنفو” أن الحكومة الموريتانية أصدرت أوامر لدبلوماسييها ومسؤوليها بتجنب الحديث عن الخلاف بين الطرفين، وتهدئة الأمر في حال فرضت الظروف عليها الحديث، والابتعاد عن وصفها بالأزمة، أو التعاطي معها على ذلك الأساس.
ولا تستبعد المصادر التي تحدثت لصحيفة الأخبار إنفو أن تتخذ موريتانيا إجراءات تصعيدية ضد السنغال في ظل استمرار الأوضاع الحالية، من بينها التضييق على تصدير قطعان الماشية إليها، وخصوصا في المواسم والأعياد حيث يرتفع الطلب عليها، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها في السنغال.
غياب المعاملة بالمثل
وتتهم السنغال موريتانيا بعدم معاملتها بالمثل فيما يتعلق بمواطني البلدين المقيمين على أراضيها، حيث ترى السنغال أنها تعامل الموريتانيين المقيمين على أرضيها كما تعامل مواطنيها بين تفرض موريتانيا شروطا مشددة على مواطنيها، وتشدد عليهم إجراءات الإقامة بدفع مبالغ مالية تصل 30 ألف أوقية، وترحل من لا يتوفر على هذه الإقامة، كما تقوم بإبعاد مئات الأفارقة الذي لا يتوفرون على وثائق إقامة إلى الأراضي السنغالية.
المحركات الخفية للصراع
ويرى مراقبون أن للأزمة بين البلدين دوافع أخرى تتعدى الملفات السابقة، من بينها وجود مجموعات ضغط في البلدين تدفع للتصعيد وتوتير العلاقات، وتتهم أطراف موريتانية وزير الداخلية السنغالي الحالي بأنه من أبرز الشخصيات الساعية وراء توتير العلاقات بين البلدين، فيما ترى هذه الأطراف أن الوزير الأول السنغالي من الشخصيات الراغبة في تهدئة الأوضاع، وتحسين العلاقات بين البلدين.
من الأوراق الخفية في الصراع بين البلدين تأكيد شركة “كوصموص” الأمريكية وجود كميات هائلة من الغاز في المياه التي تقع على الحدود المشتركة بين البلدين، ورغم حديث مسؤولين في البلدين عن التوافق على طريقة تسييره واستثماره، إلا أن ارتفاع حجم التوقعات فيه، وتداخله في الحدود المائية للبلدين يدفع لتوقع تباين وجهات النظر بين البلدين حوله.
وتتحدث مصادر من شركة “كوصموص” المكتشفة لحقول الغاز أن حكومتي البلدين أكدت لهم ضرورة المضي في العمل، وأنها لن تعرقل عملهم، ولن تختلف مستقبلا حول طريقة استغلاله، معتبرين أن الجميع يرى أن القواعد الفنية ستكون الحكم بينهما في هذا المجال.
أما المحرك الخفي الثالث فهو العلاقة الوطيدة التي تربط السنغال بالمغرب، حيث تتزايد مؤشرات الخلاف الموريتاني المغربي، ويجري الحديث عنها مع كل تصعيد من ما يوصف بمحور الرباط – داكار – باريس ضد الحكومة الموريتانية، وسعيه لمضايقها في العديد من المجالات.
وتصاعدت مؤشرات ودلائل الخلاف بين موريتانيا والمغرب خلال الأسابيع الأخيرة، وخصوصا بعد تعزية الرئيس الموريتاني لجبهة البوليزاريو عقب رحيل زعيمها محمد ولد عبد العزيز، وإيفاده لوزير الشؤون الإسلامية لحضور تشييع جثمانه، وكذا إيفاد الحزب الحاكم في موريتانيا لعضو مكتبه التنفيذي الوزير السابق سيدي ولد الزين لحضور المؤتمر الاستثنائي للجبهة، وهو المؤتمر الذي انتخب الأمين العام الجديد إبراهيم غالي، وهي كلها خطوات كانت محل انزعاج من المغرب، إضافة لقبول موريتانيا استضافة القمة العربية التي اعتذرت المغرب عن تنظيمها، وغير ذلك من مظاهر الخلاف بين الطرفين.