من طنجة على المحيط الأطلنطي، بدأ محمد اللواتي الطنجي -وهو مؤرخ وقاضٍ مغربي أمازيغي- رحلته الطويلة للحج، وقال يصف رحلته: “حزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَباً، ولقيت كما لقيا نَصَباً”.
صورة عامة لأهم مسارات الحج القديمة، ويظهر فيها الطريق العثماني والأفريقي والهندي البحري والطريق العربي. (المصدر: المتحف البريطاني)
لم يجد أبو عبد الله ابن بطوطة، الذي كان بلغ من عمره 21 عاماً، رفيقاً لرحلته للحج، لكن الرحلة التي كان يفترض أن تستغرق 16 شهراً دامت 24 عاماً كرحّالة وكاتب ومؤرخ كان غرضه فيها التعلم والرواية التاريخية وأخيراً قضاء مناسك الحج.
عبر شمال إفريقيا وساحل المتوسط، قطع ابن بطوطة بلاد المغرب والجزائر الحالية ومكث شهرين في تونس، ثم ارتحل لميناء الإسكندرية التابعة للمماليك حينها، ومنها للقاهرة فالبحر الأحمر ثم عبر البحر الأحمر لجدة فمكة.
يقول محمد الطنجي، المعروف بابن بطوطة، عن أحد مشاهد رحلته: “أصابتني الحمى، كنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج؛ خشية السقوط بسبب الضعف، فنصحني صاحبي بأن أستريح حتى أبرأ، فأبيت وركبت الدابة على مرض، وقلت في نفسي، إن قضى الله – عز وجل- بالموت، فتكون وفاتي على الطريق، وأنا قاصد أرض الحجاز”.
يحكي ابن بطوطة رحلة الحج في القرن الرابع عشر الميلادي: “رحلت ثلاث رحلات؛ بدأت أولاها من طنجة باتجاه إفريقية حتى الإسكندرية ومنها لدمياط فالقاهرة، ثم تابعت سفري في النيل إلى أسوان فعباب على البحر الأحمر، ومنها أبحرت إلى جدة ثم عدت للقاهرة ودمشق عبر فلسطين، ثم سرت إلى اللاذقية فحلب واتجهت مع قافلة حجاج إلى مكة ثم توجهت بعد ذلك إلى العراق ثم فارق وحججت للمرة الثانية، ثم انطلقت من مكة إلى اليمن فالبحرين ومنها إلى مكة ثم وصلت إلى مصر وهي أم البلاد”.
وبخلاف رحلة ابن بطوطة التي جمع فيها نية الحج وغرض التعلم والكتابة وتدوين المجتمعات والمدن، كانت قوافل الحجاج من الأندلس والمغرب؛ أو الهند وإندونيسيا؛ أو الحبشة وغرب إفريقيا، لا تقل خطورة وصعوبة عن رحلة ابن بطوطة التي دوّنها، وفيما يلي بعض مسارات قوافل الحجاج القديمة:
رحلة الحج العثمانية
من إسطنبول وعبر الأناضول والشام براً ثم الحجاز، كانت قوافل الحجاج في العصر العثماني تسلك درب الحج الشامي التي تستغرق التحضيرات لها شهوراً قبل انطلاق القافلة، يقول كيّال إن قوافل الحج قديمة؛ فمنذ انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية أصبحت قوافل الحج السنوية عُرفاً سائداً.
حيث يتجمع الحجاج في قوافل يحميها السلطان أو الخليفة ويزودها بحراسة ومؤونة وهدايا، والدولة العثمانية كانت تنظم قافلتين رئيستين للحج؛ أولاهما هي القافلة الشامية التي ينضم إليها حجاج إسطنبول والأناضول، والثانية هي قافلة الحج المصري.
مسارات الحج العثماني ومنها القادمة من بخارى وعشق آباد وطهران وأنقرة تمر كلها عبر الشام (المصدر: المتحف البريطاني)
وتشمل القافلة الشامية حجاجاً من الروم والعجم والأتراك ومن بلاد البلقان والقوقاز والقرم ومدن الأناضول والعراق وحتى وسط آسيا، وبالطبع حجاج إسطنبول نفسها، فكانت الشام (دمشق) هي نقطة تجمع وفود الحجيج القادمة عبر حلب أو عبر الطرق الصحراوية الأخرى، وكان كثير من الحجاج يصل لدمشق مبكراً ويقضي رمضان فيها؛ استعداداً لإكمال الرحلة إلى مكة والمدينة، وكان هناك خانات وزوايا لإقامتهم في رمضان.
وكان أمير الحج مكلفاً من السلطان العثماني خدمة وحماية قافلة الحج، مع قوة عسكرية لحراستها من هجمات قطّاع الطرق، ويقوم بتجهيز المحمل والكسوة الشريفة للكعبة، ويعرض أمير الحج على والي دمشق العثماني مرشحيه لمنصب قائد الحراسة وأمين التموين والميزانية ورئيس الكتبة ومسؤول الحملة الحملدار، وهو المسؤول عن الطباخين والعمال، فضلاً عن مسؤولي الطبول والأعلام، ويقوم الأمير “باشا الحج” بعرض الأسماء على الوالي لأخذ موافقته.
وتُصنع الكسوة الشريفة بأيدي عمال وحرفيين يقيمون بدمشق، ويكون في القافلة أيضاً “الجردة”؛ وهي مؤن وإسعافات إضافية للحجيج تعتبر احتياطاً؛ تحسباً لنفاد المؤن الأصلية.
وكذلك” الجوخدار” الذي ينقل رسائل الحجاج إلى أهاليهم أو يطلب لهم النجدة والمساعدة في أحوال الطوارئ. وفي القافلة أيضاً، السقاة وأصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وأصحاب الخيم وحَمَلة القناديل والمشاعل ومعاونوهم الكثر، بالإضافة لجنود الحراسة.
يصف المؤرخ السوري منير كيّال محمل الحج العثماني في دمشق، بقوله: “إن محمل الحج الحج الشامي عبارة عن هيكل خشبي يعلوه قبة رائعة الصنعة على شكل خيمة، لها نوافذ أو فتحات صغيرة ملوَّنة رُسم على حوافها خطوط مطرزة باللون الذهبي مكسوة من رفيع الديباج، مغطىً جزء منها بقماش مخملي أخضر كُتب عليه بالقصب آيات من القرآن الكريم، يحمله جَمَل مزركش بأنواع الأقمشة”.
وكان السلطان العثماني يشرف بنفسه على خروج حجاج إسطنبول ويودِّعهم من منطقة “حرم” بأسكودار، ويتم تحميل القافلة بهدايا الذهب والتحف والجِمال. وظلت القوافل العثمانية تخرج من هذه المنطقة -التي تحل محلها حالياً ساحة أوتوبيسات مطلة على البوسفور- حتى عام 1915، ويرسل معهم أيضاً صكوك بأموال الأوقاف والهدايا المرسلة للحرمين وأهالي مكة والمدينة من أغذية ومصابيح وسجاجيد.
وكان السلطان عبد الحميد أمر في مارس/آذار 1900 بإنشاء سكة حديد الحجاز لربط الأناضول والشام بالمدينة المنورة؛ لتسهيل الحج بدلاً عن قوافل الإبل ورحلاتها الشاقة بين الشام والحجاز، ووصلت بالفعل من دمشق إلى المدينة، لكن الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف حسين، أمير مكة، على الأتراك دمرت المشروع وأوقفت الرحلات.
رحلة الحج الأندلسية
خرج ابن جبير من غرناطة ببلاد الأندلس يوم الخميس 8 شوال 578 من العام الهجري، قاصداً الحج مع صاحبه أحمد بن حسان. وعبر مضيق جبل طارق إلى سبتة في المغرب، ومنها ركب البحر إلى جزيرة صقلية ثم الإسكندرية التي أقام بها مدة ثم ذهب للقاهرة، وتجول بمصر مسافراً إلى الجنوب عبر نهر النيل حتى مدينة قوص بمحافظة المنيا الحالية، ومنها رحل شرقاً إلى ميناءي عيذاب على ساحل البحر الأحمر شرق أسوان والذي كان ميناءً كبيراً وقتها، عبر منه البحر الأحمر حتى مدينة جدة.
مخطط لرحلة ابن جبير (المصدر: خريطة تفاعلية بمكتبة جامعة فيريجينيا)
وكتب عن أهوال البحر الأحمر الذي كاد يعصف بسفينته، ومكث في جدة أسبوعاً، اشتكى من أميرها مكثر بن عيسى، ومن جدة، ركب قافلة حملته إلى مكة، فوصل إليها بعد قرابة 6 أشهر في الطريق من الأندلس.
كان أبو الحسن محمد، المعروف بابن جبير جغرافياً، رحالةً وكاتباً وشاعراً أندلسياً عربياً، وقصد من رحلته إلى جانب الحج تدوين كتابه الأهم “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك،” ولذلك طالت رحلته بينما كان أهل الأندلس يقضون نصف الوقت تقريباً في رحلة الحج.
وفي مكة، وصف أحوالها وغضب ممن اتخذوا الحرم سوقاً للبيع، ودخل الكعبة ووصفها من الداخل، وأقام بمكة شهوراً، ثم زار المدينة أسبوعاً، بدأ بعدها طريق العودة إلى الأندلس عبر طريق الشام، فسافر إلى نجد في الصحراء، ثم رحل إلى الكوفة فالحلة فبغداد ثم الموصل وتكريت، ثم سافر غرباً للشام، وتجول في مدن الشام قبل أن يركب البحر مع تجار إلى صقلية، ومنها عبر البحر إلى الأندلس، ثم لبيته في غرناطة أخيراً، بعد 3 سنوات تقريباً من الترحال المستمر.
الرحلات الأبعد والأخطر.. الهند وإفريقيا
من سنغافورة ومومباي وكلكتا بالهند وكراتشي وجاوا والصين كان الحجاج القادمون من جنوب شرق آسيا يصلون عبر موانئ مسقط وعدن والبحر الأحمر (القصير وبور سودان) إلى ميناء جدة ومنه يكملوا رحلة الحج إلى مكة. (المصدر: المتحف البريطاني)
كان سلاطين الهند والمغول في شبه القارة الهندية وأمراء جنوب شرقي آسيا يحرصون على تجهيز السفن والقوافل لنقل الحجاج إلى مكة والحرمين الشريفين، وكانت الموانئ الهندية الواقعة على الساحل الغربي في الهند وباكستان الحالية، مثل مومباي وكراتشي، تنشط في موسم الحج لنقل الحجاج من بلدان آسيا الجنوبية وحتى آسيا الوسطى للسفر إلى جدة عبر بحر العرب ثم البحر الأحمر في السفن المخصصة لنقل الحجاج.
يحكي كتاب “رحلة الأميرة للحج” عن رحلة الأميرة سكندر بيجوم للحج عام 1863، مع قرابة 1000 من الهنود القادمين من إمارة بوبال الإسلامية الهندية، إلى مكة عبر 3 سفن انطلقت من مدينة بومباي لمدة 3 أسابيع تقريباً حتى وصلت جدة أخيراً، بعد أن واجهت مخاطر وتعقيدات كبيرة، وفقدت خلالها 8 من رجال القافلة، منهم 4 في السفينة التي كانت محمَّلة بالحُلي والملابس والهدايا للأمراء والفقراء في مكة، حيث أقامت فيها 6 أشهر.
ومن إفريقيا، سلك الحجاج طرقاً مختلفة للوصول للحجاز لأداء فريضة الحج في مكة، ورغم أن كثيراً من هذه الطرق كان يمر عبر المغرب ويكمل الطريق مع الحجاج المغاربة عبر ليبيا والجزائر براً قرب ساحل البحر المتوسط، أو عبر البحر بالسفن حتى الإسكندرية، ومنها للجنوب عبر المراكب النيلية ثم الحجاز عبر البحر الأحمر (خاصة في زمن الصليبيين) أو عبر طريق سيناء- فإن بعض الطرق الأخرى، مثلما كتبه ابن خلدون والمقريزي عن حجاج وسط وغرب إفريقيا، كانت تمر عبر الصحراء الإفريقية الخطيرة المحرقة، مروراً بالسودان ثم مصر ومنها للحجاز عبر البحر الأحمر أو عبر الصحراء السيناوية.
رسم مسار طرق الحج الأفريقية (المصدر: المتحف البريطاني)