صدرت عن دار مسكلياني بتونس رواية “الحدقي” للكاتب الموريتاني أحمد فال بن الدين، وتروي الرواية حياة الأديب النقادة، والاجتماعي الناثر أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
الاسم الذي اختاره ابن الدين لروايته هو مرادف -أو قريب من المرادف- للقب الجاحظ؛ فبالنسبة إلى حدقة العين البارزة فإنها تضاهي تماما لقب الجاحظ الذي هو وصف لحالة عيني أبي عثمان.
وتقع رواية “الحدقي” في 440 صفحة، وتنتمي لصنف الرواية التاريخية، وهو نمط من الرواية يتداخل فيه الخيال مع الواقع؛ إذ تستند الرواية إلى قصة واقعية، يضعها المؤلف في سبيكة سردية واحدة مع قصص ووقائع من نسج خياله لتأثيث عالم البنية الروائية، بما يضفي صبغة تشويقية على الأحداث ويورط القارئ في لعبة ممتعة مربكة.
وتتداخل في “الحدقي” أزمنة متعددة؛ منها زمن الراوي، وزمن الوقائع، وأزمنة أخرى تاريخية تستدعيها تقنيات السرد، والمواضيع التي يطرقها البطل الجاحظ، وتنتسج من حول حياته الزاخرة خيوطُها.
وبنى ابنُ الدين روايته من قصتين أساسيتين: عمل من خلال إحداهما على “تخييل واقع” من غرفة أخبار قناة بعاصمة قطر تسمى “قناة العروبة” في القرن 21؛ وبذلك تمكن الكاتب من الانتقال السلس إلى المزج الرصين بين البعد الواقعي في حياة الجاحظ الحقيقية التي عاشها في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري، وسلخت عقودا من القرن الثالث، وهي القصة الثانية.
كما تمكن من خلق تكامل بين شخصيتي الراوي والبطل، مما ولَّد وحدة عضوية في الرواية، عبر الالتقاء بين القروي والجاحظ في اهتمامهما المفرط، أو قل: تعصبهما للغة العربية، وثقافتها؛ فالصورة التي يظهر بها القروي في مفتتح الرواية تعطي مسوغا واضحا لولوعه بشخصية الجاحظ.
القروي، أو محمد القروي، شاب موريتاني في ذروة عطائه المهني والأدبي ترمي به الأقدار للعمل مدققا لغويا في غرفة أخبار “قناة العروبة” بالدوحة، وما يلبث تطرفه في الانحياز للسليقة العربية أن يخلق له عداوات في العمل، ثم يروح ضحية صراع لوبيات يعرف نمَطَهُ العاملون في المؤسسات الكبرى في وطننا العربي.
لكن الأقدار تختار لمحمد القروي “دحرجة مشتهاة”؛ فإبعاده من غرفة الأخبار يمر عبر تكليفه بكتابة رواية تنوي القناة تحويلها إلى مسلسل تاريخي عن الجاحظ.
لا ينقضي تداخل زَمَنَي الحدقي والقروي عند اهتمامهما المشترك باللغة العربية؛ فزمناهما الثقافيان بينهما تشابه أيضا؛ حيث يعيش الجاحظ في زمن بدأت فيه الشعوبية تطل برأسها، وبدا التشكيك في أهلية العربي، وقدراته، ومكانته بين الأمم حديث مجالس، وفاكهة سمار؛ فهو معاصر لأبي نواس صاحب النزعة المشهورة ضد العرب، والتي للمفارقة ضمنها أعذب قصائده العربية.
رواية “الحدقي” تقع في 440 صفحة، وتنتمي لصنف الرواية التاريخية
مهانات العرب والعربية
والقروي يعاني مَهانات العرب والعربية في عالم القرن 21، وأشدها عليه ما يصدر عمن فقدوا سليقتهم من جيله، من امتهان للغة العربية، واستصعاب الالتزام بقواعدها.
وإضافة إلى تشابه الزمنين تتشابه أقدار القروي والحدقي؛ فترُدُّ تماضر حظيةُ الخليل بن أحمد خطبةَ الجاحظ، ويأبى والد “مطوعة بريدة”، أن يزوجها من القروي.
و”مطوعة بريدة” هو اللقب الذي اختاره القروي لمعشوقته السعودية حصة، التي تعمل بالإدارة التقنية بقناة العروبة، وتنتهي إلى الفشل خفقة قلبي الراوي والبطل.
وتحكم الأقدار بأن يزول فقر الجاحظ برواج إحدى رسائله لدى الوزير ابن الزيات، وتختار حلا مشابها لأزمة القرض المالي الذي أرهق القروي؛ فتتعاقد معه شركة غوغل وتخرجه من ورطته نتيجةَ تقدير الشركة لجهده في تصحيح الترجمة الآلية.
يقع ذلك بعد أن كاد القروي يفقد الأمل، وقد لفظته مكاتب “قناة العروبة” إلى الشارع، ومنعته القوانين المحلية من مغادرة البلاد ما لم يسدد دينه.
وهنا يتجلى وجه آخر لراهنية الجاحظ، فهو يعكس بطرف من حياته معضلة المثقف العربي، وصعوبة تحقيق الشرط المادي في ظل سلطة لا ترعى المواهب، إلا بقدر ما يخدم عقيدة البلاط.
وقد حظي الجاحظ عند السلطة دهرا لأن قناعاته الاعتزالية وافقت رؤيتها، لكنه نكب مع حزبه لأن عقيدة أخرى رفعتها الأقدار إلى سدة الحكم.
الجاحظ.. روح عصر مزدهر
تبدأ “الحدقي” قصة حياة الجاحظ من مشهد جلد الشاعر بشار بن برد سنة 186 من الهجرة، الذي ينتهي بموته تحت السياط، وتنتقل قاصَّةً صباحات الجاحظ ومساءاته متنقلا في دروب البصرة، وبين مخابزها وكتاتيبها.
ويتنقل الكاتب مع الجاحظ حيثما حلَّ في درب الوراقين، أو على شاطئ سيحان لاستقبال الصيادين، وانتقاء بضاعته من سمك الشبُّوط، ويتابعه وهو يبيعها بالتقسيط في سوق البصرة. وفي حركة رشيقة من قلم ابن الدين في أحد الحوارات الساخرة، الكثيرة، يتحول الفتى من عمرو إلى الجاحظ.
ومعه يحمل القارئ في سياحة إلى حاضرة الثقافة العربية الإسلامية في وقتها، مدينة البصرة، وإلى سُرَّة زمان الثقافة العربية الإسلامية، القرن الثالث الهجري، حين ازدهرت المكتبات واستوى فن التأليف على سوقه.
وهنا يحاور القارئ شيوخ المعتزلة، كالنظام، وابن أبي دؤاد، ويساير شيوخ البخلاء مثل سهل بن هارون، ويواكب حركات المحدثين مثل علي بن المديني، ويسامر من الشعراء أبا نواس والبحتري وأضرابهما.
“الحدقي” تبدأ قصة حياة الجاحظ من مشهد جلد الشاعر بشار بن برد سنة 186 هجري، الذي ينتهي بموته تحت السياط، وتنتقل قاصَّةً صباحات الجاحظ ومساءاته متنقلا في دروب البصرة، وبين مخابزها وكتاتيبها
تحملك الحدقي على عربة تشعر باهتزازها وأنت تقلب الصفحات على أريكتك، وتتناهى إلى أذنيك صرخات الباعة والمُكارين، ونهرات الوعاظ في سوق البصرة، وأنت تتأمل السحنات التي أوحت إلى الجاحظ بكثير من أفكاره عن اجتماع القرن الثالث الهجري.
وفي أخصاص الطلاب بجامعة الخليل بن أحمد الفراهيدي، نبتت خوافي الجاحظ العلمية، وتزاحمت في عقله معارف اللغة، وتحديات التداخل بمطالعات بواكير الترجمات إلى اللغة العربية، التي تحمل إلى سوق الوراقين من بغدادالقريبة.
ولا تلبث الأقدار أن تحمل الجاحظ إلى بلاط الخليفة المأمون ببغداد، بعد أن تلقف ابن الزيات إحدى رسائله، ويبدأ طور جديد من حياته.
لم يكن بلاط المأمون مجرد مجلس لسلطان مثقف شغوف بالعلم، محاور في كل الفنون؛ وإنما كان حضرة علمية تُجْبى إليه ثمرات عقول البشر، أحياء وأمواتا، فعلى مسافة خطوات من البلاط الغاص بعلماء العصر شيد أول مختبر ترجمة في العالم، واستدعي له مهرة النساخ، وعلماء اللغات، وأنفق عليه بسخاء من خزائن إمبراطورية يأتيها خراج المزنة أنَّى أمطرت.
وفي بغداد المأمون لمع اسم الجاحظ حتى صار واحدا من الأسماء الخمسة الأوائل، ونضج أسلوبه في التأليف، وأصبح علامة مسجلة للقرن، وللجاحظ الذي أهدى العالم درر قريحته، في الحيوان والبيان والتبيين، والرسائل التي نثر فيها علوما شتى بإتقان ينم عن موسوعية يرفدها عقل جبار؛ كل هذا تلقاه في بنية الحدقي السردية بأسلوب لا يخلو من طرافة، وحوار حاد.
لعبة الإرباك والنمط الصعب
يمارس ابن الدين لعبة الإرباك مع القارئ، حين لا يضع فواصل بين الخيالي والواقعي في حياة الجاحظ، فلا نعرف أن خطبة الجاحظ لابنة شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي، من نسج خيال الكاتب، ويزيد إرباكنا ما انطوت عليه تلك القصة من صراع في نفس الجاحظ، وما حملته من روح العصر.
كما لا نعرف أن عَريبا جارية الجاحظ هي الأخرى لا يوجد لها أصل واقعي، رغم أنها تؤثث المشهد السردي كله، وتنقلنا إلى بلاط المأمون، بل وتخرج بنا إلى شمال الأندلس، حيث يقيم الملك شقيق عريب، الذي يرسل من يخطفها، قبل أن تعود إلى الجاحظ وهو يحتضر، ومرض الفالج يأكل جسمه المتهالك مع طاحونة أيام المحن، وسوابق شظف العيش.
استطاع ابن الدين أن ينجح في اختياره نمطا صعبا من الأعمال الروائية بتحكمه في زمنين متباعدين، ويخلق بينهما روابط سلسة تنقل القارئ من الدوحة والقرن 15، إلى البصرة أو بغداد في القرن الثالث الهجري، دون أن يحس نتوءات، أو يفضي إلى تعقيد.
كما استطاع السيطرة بمهارة على نهاية الحياتين دون أن يبتسر خواتيم لا يقود إليها السياق، أو يتضخم العمل بمنعرجات وصف وتفاصيل لا تخدم الرؤية الفنية، أو “رسالة الحدقي”.
نقلت الحدقي أجواء القرن الثالث، بتعدديته الثقافية، وتسامحه، وامتزاج الأعراق والأمم، والصراعات الفكرية؛ بين العروبيين والشعوبيين، والمعتزلة والحنابلة، أو مدرسة الأثر ومدرسة علم الكلام، بين أنصار النثر والمتحزبين للشعر، ورسمت صورة صادقة للقرن الذي يعد قرنا مركزيا في الثقافة العربية الإسلامية، لأنه كما يرى الجابري وغيره هو المتحكم في رؤيتنا لما قبله لأنه عصر تدوين المعارف الإسلامية، ونضوج شخصية العربي المسلم الثقافية والحضارية.
استطاع الكاتب لمعايشته للجاحظ أن يتمثل أسلوبه المتفرد، فلا تستطيع الفرق بين العصرين أسلوبيا إلا من خلال تاريخ الحدث ومسرحه؛ فمثلا حين يصف ابن الدين معشوقة القروي بأنها تنتمي لذلك: “النمط من النساء الذي تمر عليه العين بحياد، فلا هي ممن تتأذى العين برؤيتها حتى تعلق بالذهن، ولا هي جميلة جمالا تجعل خريطة جسمها مداءات لتَرداد النظر وابتهاجِ العيون”، فتتوهم أنك تقرأ إحدى رسائل الجاحظ لا رواية في القرن 21.
ابن الدين يمارس لعبة الإرباك مع القارئ، حين لا يضع فواصل بين الخيالي والواقعي في حياة الجاحظ، فلا نعرف أن خطبة الجاحظ لابنة شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي من نسج خيال الكاتب، ويزيد إرباكنا ما انطوت عليه تلك القصة من صراع في نفس الجاحظ، وما حملته من روح العصر
ملاحظات على الرواية
تعد “الحدقي” المغامرة الروائية الثانية لابن الدين؛ بعد تجربته الأولى التي دون فيها أيام اعتقاله في ليبيا، “في ضيافة كتائب القذافي”، ووفق أثناء سرده في استراق نتف من حياته الشخصية، وتجربته المهنية والتعليمية، مع أنها تتداخل مع عالم السيرة الذاتية.
لم تغرق رواية الحدقي في الوصف كما سبقت الإشارة، وكانت مقتصدة في رسم ملامح الشخصيات والأمكنة، ولكن جنوحا نحو الخيال كاد يشتط بها عندما تصوَّرَ ابنُ الدين أن عريبا عادت إلى الجاحظ من مملكة أخيها شمال الأندلس.
لقد كادت هذه العودة أن تهتك الغلالة الرقيقة التي حجز بها ابن الدين بين خياله وواقع القرن الثالث، وكادت أن تحول نهاية الرواية إلى حالة رومانسية مكرورة في الأعمال الروائية والدرامية التقليدية.
كما كاد ابن الدين أن يحرم قارئه من رؤية مختلف جوانب حياة الجاحظ، خاصة انحيازاته غير العلمية تجاه بعض الفرق والمذاهب الإسلامية، ووقوفه إلى جانب السلطة التي كانت تعذب الناس بسبب آرائهم، وهو أمر يشف عن موقف ثقافي للكاتب، يستبطن شيئا من إعادة الاعتبار إلى الفكر الاعتزالي.
لا تغني القراءة عن “الحدقي” عن قراءتها، كما لا يكفي عمل روائي واحد لإعادة الاعتبار لتراث كاد يطويه النسيان، وتحول لغته وأساليبه بينه وبين الناشئة من أجيال الأمة الحاضرة.