هل تتشابه مآسي العرب في الماضي والحاضر؟، هل يُكرِّر التاريخ نفسه في بلادهم؟ أم أن الإنسان العربي لا يتعظ من التاريخ، فيُكرِّر نفس أخطاء أجداده.
قصة “الموريسكيون” هي واحدة من أكثر فصول التاريخ العربي قتامةً، فبعد القوة والمجد والرخاء، عانى الموريسكيون واحدة من أعنف حلقات الاضطهاد في التاريخ.
أُطلق لفظ الموريسكيين على أهل الأندلس، الذين وقع عليهم قرار التنصير الإجباري، بعد أن سقط ملك بني الأحمر في غرناطة، آخر دويلات المسلمين بالأندلس؛ فظلوا يدافعون عن دينهم وانتمائهم للمكان، حتى هُجِّروا قسراً من الأندلس.
وبعد صدور قرار من ملكي إسبانيا الكاثوليكيين، “إيزابيلا وفرناندو”، بتنصير كل من على أرض المملكة عام 1499، وحرق كل الكتب العربية، ومنع ارتداء الزي العربي، والأسماء العربية، وحتى التحدث باللغة العربية، ومع قرار التنصير الجبري، أصبحت كلمة “موريسكي” لا تعني سوى نصراني جديد.
وعاش اليهود والمسلمون المحنة نفسها، لكن كان المسلمون أغلبية؛ فظلوا يعانون الاضطهاد والتشتيت، وقمع حرياتهم، وملاحقة محاكم التفتيش لهم؛ حتى أصبحوا أمام خياري التنصير أو الطرد.
الموريسكي الأخير
جاء الكاتب المصري صبحي موسى برواية “الموريسكي الأخير”، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2015، لتُحدثنا عن أحد أحفاد الموريسكيين، الذين استقرت بهم الأمور إلى الحياة على أرض مصر، من خلال يوميات مراد في مصر، وبين قراءته لمذكرات الجد محمد عبدالله بن جهور، الذي عايش التهجير من الأندلس، ومحاولة الموريسكيين القيام بالثورة؛ للاحتفاظ بحقوقهم، كونهم مواطنين مسلمين في الأندلس.
وتدور أحداث الرواية عبر عصور مختلفة في مدى زمني يزيد عن 500 عام، إذ تبدأ الأحداث بمراد مشاركاً في أحداث ثورة 25 يناير/كانون الأول 2011، التي استطاعت أن تشعره بانتماء حقيقي للمرة الأولى إلى هذه الأرض التي ولد بها وعاش وعمل مصوراً صحفياً في إحدى مؤسساتها الصحفية.
تلخَّصت حياته بين الذهاب إلى العمل، والعودة لمنزل يعيش بين جدرانه بصحبة جدته “جنى”، التي كانت تذكره بتاريخ أجداده الموريسكيين ورحلتهم من الأندلس، حتى استقر بهم الأمر على أرض مصر، وهي من أعطته مذكرات الجد محمد عبدالله بن جهور؛ ليقرأ علينا من خلال الأحداث قصة حياة الجد عن الأندلس، والثورات التي شارك فيها.
تتناول الرواية الأحداث بالتناوب بين الماضى والحاضر، إذ تركز على حقبة تاريخية مهمة، تمثلها مذكرات الجد، وحاضر سوف يصبح تاريخاً يشهد مراد على أحداثه.
من هذه النقطة، تنطلق الرواية في سرد شيق ومتناغم، يروي كل منهم من خلاله ما حدث له في حقب مختلفة الزمن، لكنها قد تتشابه في الأحداث، كذلك تثير بداخلنا تساؤلاً مهماً عمن هو الموريسكي الأخير الذي يقصده الكاتب من عنوان الرواية، مراد الذي شارك في ثورة يناير أم الجد، آخر من عاصر الثورة في الأندلس؟
الموريسكي المصري
يذهب السرد إلى مراد فيروي طبيعة حياته في مصر، ويعرض خلالها معاناته من نظرة الريبة والشك ممن حوله في العمل في معتقداته؛ حتى أصبحت حياته خالية من الأصدقاء، سوى ناريمان، التي تعمل لدى إحدى المؤسسات الإخبارية خارج مصر، وتطالبه بالتعاون معها، وإعداد التقارير حول الواقع المصري في ذلك الوقت، حتى يكتشف حقيقة نواياها عن طريق أحد ضباط الأمن.
ثم ينتقل السرد إلى محمد عبدالله بن جهور، الذي أرسله والده إلى مدينة طليطلة؛ كى يتعلم الفنون والعلوم كافة، التي تمكنه من حفظ تاريخ الأجداد فيما بعد، والدفاع عن حق مسلمي الأندلس في حكم وطنهم والعودة إليه مرة أخرى.
ومن أجل أن يتفرغ الأب عبدالله بن جهور لقيادة ثورة الموريسكيين، التي عرفت بثورة البيازين عام 1495، وقامت بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة، حيث اشتعلت نتيجة اعتداء جنود الإسبان على إحدى السيدات، وعلى حقوق المسلمين في ذلك الوقت، واستمرت نيران الثورة حتى عام 1499؛ حين أعلن الملك فيرناندو تنصير أهل المملكة إجبارياً أو التهجير، حتى خمدت نيران الثورة بمقتل عبدالله بن جهور.
يعود بنا الكاتب إلى مراد وفترة حكم المجلس العسكري، التي انتهت بحكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر نحو العام. يعرض أهم الخلافات التي حدثت في مصر بذلك الوقت، حتى إصدار الرئيس المنتخب آنذاك محمد مرسي الإعلان الدستوري المثير للجدل؛ الذي أدى إلى ظهور حركة تمرد، واشتعال الشارع من جديد.
حرب البشرات
ومن شرارة الثورة في ماضينا القريب، تعود بنا الأحداث مرة أخرى إلى محمد عبدالله بن جهور، الذي يقرر أن يترك مدينة طليطلة، ويعود إلى مدينة البشرات للمشاركة في ثورة الموريسكيين الجديدة، التي عُرفت بـ”حرب البشرات”، واستمرت من 1568 حتى عام 1571، تحت قيادة كل من فرج بن فرج، وترجع أصوله إلى بني الأحمر، آخر حكام غرناطة من المسلمين، ومحمد بن عبو.
وانطلق ذلك بعد أن جمعا المدد من ملوك شمال إفريقيا، وبايعوا ابن أمية، واسمه المسيحي فرناندو دي بالو قائداً لهم، وبدأ العصيان المسلح على شكل حرب عصابات بدعم عسكري ومالي من الجزائر، لكن اغتيل ابن أمية سنة 1569، وخلفه محمد بن عبو.
ورغم كل ما تحقق من انتصارات، إلا أنهم سرعان ما خسروا بعد قتل قادتهم بيد بعض أتباعهم، في مؤامرة دبرها الأسبان بأحد كهوف البشرات، وخمدت الثورة سنة 1571، ليرحل محمد عبدالله بن جهور بأبنائه إلى مدينة تطوان شمال المغرب، ثم يستقر في مدينة شفشاون القريبة منها، ويسجل كل ما عاصره من أحداث حتى وفاته بها، تاركاً أبناءه يستعدون للرحيل إلى تونس، ومع الأيام وتغيُّر الأحوال يرحلون إلى مصر.
مَن البطلُ؟
يعد الزمن البطل الرئيسي في الرواية؛ فقد استطاع الكاتب أن يمزج بين أكثر من حقبة تاريخية مليئة بالأحداث دون أن يشتت القارئ، فهو لم يتناسَ خلال الحديث عن تاريخ الأندلس أن يذكر رحلة أجداد مراد من شفشاون بالمغرب، حتى استقر بهم الأمر في مصر أثناء حكم المماليك، وذهب الكاتب أيضاً إلى فترة ما قبل سقوط الأندلس؛ لعرض الأسباب التي أدت إلى سقوطها، وهي ظهور ملوك الطوائف، بعد سقوط الخلافة في قرطبة، واستعانتهم بالإسبان والقشتاليين؛ لمحاربة بعضهم البعض.
وكان لهذا الجزء بُعد آخر لدى الكاتب، فأراد أن يشير من خلاله إلى الاتجاهات التي تنازعت حول الحكم في مصر، عقب ثورة يناير/كانون الثاني2011، وانشقاق الشعب بين مؤيد ومعارض، حتى انتهى الحكم إلى يد الإخوان.
هذا ما ينقصها؟
اللافت أن الكاتب ذكر المعارك التاريخية بأسماء المدن والحكام بكل دقة، فمثلما ذكر أسماءهم العربية لم ينسَ أسماءهم بالمسيحية، لكن يُؤخد على الكاتب مع الأحداث الشيقة والتناغم الذي يخلو من لحظة ملل واحدة، أنه لم يشر ولو في مقدمة الرواية إلى مصادر تلك الأحداث والوقائع التي يتحدث عنها، ومن أين جاء بها.
نعلم أنه بزيارة بسيطة لمحركات البحث الإلكتروني نعثر على تلك المعلومات بالدقة نفسها التي جاءت بها، وهو ما حدث بالفعل، لكن كان يجب عليه التنويه، خاصةً أننا بصدد أجيال تبحث عن المعلومة السهلة، وقد لا ترهق نفسها بمزيدٍ من البحث، ولا بد للكاتب الذي يطرق باب التاريخ أن يحذر منه مرة، ومن قارئ التاريخ ألف مرة.
الجنسية الإسبانية
تنتهي أحداث الرواية مراد، وقد استطاع أن يؤلف كتاباً يحتوي على تاريخ أجداده، ويجمع بين أملهم وثوراتهم الضائعة في الأندلس، وبين رحلتهم حتى استقروا في مصر، ومن لم يستقر بها وذاب في بلاد وبين جنسيات أخرى، بحث عن سيرهم وضمها إلى الكتاب؛ أملاً في أن يستطيع تحقيق حلم أجداده بأن يحصل على الجنسية الإسبانية، باعتباره مواطناً مسلماً أندلسي الأصل.
ويبرهن الكاتب من خلال هذا الكتاب الذي ألّفه مراد، أن التاريخ مهما تعرض لتحريف وتزوير وحرم الناس من حقوقهم، فهم أحياء داخل ضمير الشرفاء والباحثين أبداً عن الحقيقة، وأن روح الثورة لا تنتهي، وبها يستعيد الإنسان شعوره بالانتماء.
كذلك استطاع الكاتب أن ينفي من خلال عرض ثورات الموريسكيين في الأندلس، تهمة التخلي عن الأرض بسهولة، فقد حاولوا، لكن الخيانة والنزاعات الداخلية، التي لا بد أن نحذرها في حاضرنا حالت دون ذلك.
ويتركنا الكاتب أمام تساؤل آخر، فسواء انتصرت الثورة أم لم تنتصر، ألا يستحق أصحابها أن نذكرهم ونروي بطولاتهم وأمجادهم، حتى ولو كانت محاولات بسيطة؟