يقول رجل الاعمال بمبا ولد سيدي بادي في مذكراته المنشورة مؤخرا، والصادرة عن وكالة الاخبار أنفو (ص 53) :
“.. ألم أقل لكم منذ بداية هذه المذكرات أن الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله وحكومته وأغلب المؤمنين بضرورة استكمال الاستقلال كانوا يشتركون في فكرة أساسية، وهي ضرورة الاستقلال الاقتصادي المتدرج، لقد كان قطاع النقل ثم المعادن أول هذه القطاعات التي عادت إلى حضن الدولة الوطنية وأصبح تحت السيطرة الموريتانية الكاملة، ثم التحق بهما قطاع المقاولات والإنشاءات.
وأصبحت الأيدي الموريتانية تبني جدار الوطن الموريتاني، لقد كانت المباني قوية وجميلة وجيدة، يمكن أن تنشد:
سقف بيتي حديد == ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح == واهطلنْ يا مطر
لست أخشى خطر
وفي هذه الظروف تقرر إنشاء شركة سونمكس، وتأسست في 1965 وكنت عضوا مساهما في رأس مالها بنسبة 5% وكان رئيس اللجنة الإدارية هو الزعيم حمود ولد أحمدُّ.
وقد تعاقب عليها في تلك الفترة عدة مديرين من بينهم:
عبد الله ولد الشيخ
الشيخ ولد خطاري
بكار ولد التيس
أحمد ولد داداه
المصطفى ولد محمد السالك
عبد القادر ولد محمد لأحمد
ولقد كانت الشركة تحتكر بيع واستيراد السكر والأرز والقماش والصمغ العربي، واستطاعت بناء مقرات جيدة في مختلف ولايات موريتانيا، وتموين السوق الموريتاني بحاجياته الضرورية، ورعاية البرامج الاستعجالية التي نفذتها الحكومة بعد ذلك لمواجهة وضعية الجفاف وظروف الحرب التي نشبت بين موريتانيا وجبهة البوليساريو.
وعلى ذكر المديرين السابقين أذكر من القصص النادرة التي شهدت عليها في تلك الفترة قصة وقعت بين مدير الشركة أحمد ولد داداه، وخاله رئيس البرلمان السابق سليمان ولد الشيخ سيديا:
ذات صباح كنت في مكتبي بمقر شركة سونمكس إذ لمحت رئيس البرلمان السابق المرحوم سليمان ولد الشيخ سيديا وهو خال أحمد ولد داداه، فوقفت لأسلم على هذا الرجل الذي يختزل اسمه آمادا كبيرة من الكرم والأخلاق والفضل الذي يشهد به كل أهل موريتانيا، كما أنه آخر حبات عِقد السادة الأعلام أبناء بابا ولد الشيخ سيديا، إن بابا ولد الشيخ سيديا ليس مجرد اسم عابر في ذاكرة التاريخ الموريتاني، بل هو محور أساسي من محاور الفضل والمجد والكرم والولاية والصلاح.
بعد تبادل التحية، غادر سليمان باتجاه مكتب مدير سونمكس السيد أحمد ولد داداه، ثم عاد بعد ذلك بقليل لا يبدو على وجهه الرضا.
استقبلته من جديد، وخاطبته: السيد الرئيس هل قضيتم مهمتكم في المؤسسة.
رد علي باقتضاب: لقد رفض أحمد ما جئت به، وعلي أن أعود خائبا إلى تجار بوتلميت الذين توسطوا بي لكي تبيع لهم سونمكس الشاي(الورگة)، ففي بوتلميت اليوم لا توجد مادة الشاي، وهي تموّن عدة مناطق من بينها الركيز ومناطق شمامة بأجمعها.
قلت له أعطني اللائحة وسأتصرف أنا، وفي المساء أرسل لي مبعوثا باسمك ليتسلم الأوصال التي تريدها.
دخلت على أحمد ولد داداه، وقلت له: كيف ترفض طلبا بسيطا جاءك من عند سليمان ولد الشيخ سيديا.
رد أحمد: لقد عينني مجلس الوزراء هنا باعتباري مديرا لشركة موريتانية يتساوى فيها كل أبناء موريتانيا، ولست مديرا ممثلا لأهل بوتلميت ولا لأهل الشيخ سيديا أو أهل داداه، ولا يمكنني أن آذن ببيع الشاي لأهل بوتلميت وأترك بقية المناطق، وعليهم أن ينتظروا حتى يصلهم الدور.
قلت لأحمد إنني أرفض هذا المبرر وأطلب منك تنفيذ ما طلبه سليمان، وأنا مستعد لتحمل المسؤولية القانونية فيما يتعلق بموقفي، رد علي:هذا شأن لك فيه واسع النظر باعتبارك عضو اللجنة الإدارية، أما أنا فلا يمكنني القيام به.
ذهبت من عند أحمد إلى مدير المبيعات في المؤسسة محمدن ولد خطاري، فرد بأن علي أن آتيه بأمر مكتوب من المدير أحمد، قلت له إنني عضو اللجنة الإدارية وهي أعلى قانونا من الإدارة العامة، وعليه أن ينفذ ما طلبته منه.
استجاب محمدن لما طلبت منه وسلمني أوصال البيع فوضعتها في ظرف، وفي المساء جاءني مندوب من سليمان ولد الشيخ سيديا فأعطيته الأوصال وغادر شاكرا.
إنما سقت هذه القصة لأؤكد أن أمانة أحمد ولد داداه والتزامه بالقانون ستبقى مضرب الأمثال ، أما أنا فقد تصرفت من منطق لا أظن أنه مثار حرمة قانونية، وفي النهاية علينا أن نعرف للناس أقدارهم، ومثل سليمان ولد الشيخ سيديا لا يرد ولا يدفع بالأبواب.
لكن أحمد رغم كل ما ذكرته عنه من أمانة ونزاهة، يبقى واحدا مما أسميه “جيل الحكمة والعفاف”، جيل المختار ولد داداه ومساعدي المختار والموظفين الذين اختارهم المختار لإدارة الشأن العام، فقد كانوا جميعا فرسان رهان في الأمانة والنزاهة.
لقد تعززت صلتي بأحمد ولد داداه منذ عملنا المشترك في سونمكس، لكنها تعززت أكثر بعد ذلك بعد أن جمعنا خيار سياسي وهو معارضة نظام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع ضمن حزب “اتحاد القوى الديمقراطية/عهد جديد”، كما جمعنا قبلُ سوطُ العسف والظلم الذي طالنا في الفترة الوسيطة للعسكر، وجمعتنا رحلة نحو الزنازين فرقتنا بعد ذلك، فذهبت أنا إلى تامشكط وذهب هو إلى تيشيت، وسأعرض لذلك في صفحات لاحقة.
وقد رقي أحمد ولد داداه بعد إدارة سونمكس سنة 1973 إلى منصب محافظ للبنك المركزي، وكان قد أشرف على المراحل السرية لإنشاء العملة الوطنية كما أسلفتُ سابقا، ليعلن إصدار عملتنا الوطنية “الأوقية” في 30/يونيو/1973.
لقد كان ذلك العامُ عامَ خير ونماء، عام ثورة اقتصادية تعززت فيها قدرات الدولة في مجالات الاقتصاد المختلفة، وتعززت قدرة رجال الأعمال وتوسعت أعمالهم بعد تحويل العملة إلى “الأوقية” بدلا من الفرنك الإفريقي.
وزاد من أهمية الموضوع أن هذا القرار كان ضربة قاضية للشركات الأجنبية في موريتانيا، التي اضطر عدد كبير منها إلى مغادرة موريتانيا وبيع مقراته وآلياته، وهكذا إذن ربح رجال الأعمال الموريتانيون فرصة أوسع لإدارة الأعمال والحصول على الصفقات العمومية، كما استطاعوا شراء مقرات وآليات ومبان وتوظيف عمال ومتدربين جدد.
واستطعنا بسبب الظروف الجديدة الانطلاق إلى جو قانوني مضبوط بتوقيع الاتفاقية العامة للشغل في 14/فبراير /1974″.