عبقري أيرلندا: حين قاد رجلٌ واحد ثورةً هزمت احتلالًا كاملًا!

0
323

لو عدنا بالزمن إلى بدايات القرن الماضي، وتحديدًا في الفترة من عام 1910 إلى 1920، وسألنا أي شخص من أقاصي آسيا إلى غرب الولايات المتحدة، ومن جرينلاند شمالًا وحتى كيب تاون جنوبًا، عن أقوى كيان عالمي في هذا العصر، لحصلنا على إجابة واحدة قاطعة، بإمبراطورية امتدت على مساحة تقترب من 300 مليون كيلومترًا مربعًا، لتصبح الإمبراطورية الأكبر في التاريخ، وجيش هو الأقوى عالميًّا، وبحرية تسيطر على جميع المسطحات المائية الكبرى على الأرض، واقتصاد ظل حتى بداية الحرب العالمية الأولى لا تنافسه أي دولة. باختصار، ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان العالم بأكمله يتفق على إجابة واحدة: «الإمبراطورية البريطانية»، بينما حلق فوق رؤوس الجميع سؤال بدهي: كيف يمكن هزيمة كيان كهذا؟

حسنًا، يمكننا الحصول على الإجابة من رجل واحد فقط!

ما قبل الأسطورة

استكانت أيرلندا منذ عام 1691، وحتى نهاية القرن الثامن عشر تحت الاحتلال البريطاني، قبل أن تقوم بثورتها العارمة في عام 1798، وهي ثورتها المسلحة الأولى التي نظمتها وقادتها منظمة رجال أيرلندا المتحدين، المنظمة التي استمدت أساسها من المبادئ الجمهورية الأيرلندية، وأفكارها الرئيسة من ثورتي فرنسا والولايات المتحدة. قامت الثورة في مايو (أيار)، قبل أن تسيطر عليها القوات المسلحة في الـ20 من يونيو (حزيران) التالي مباشرة، واستمرت بعض المناوشات من قبل الأيرلنديين على مدار الشهرين التاليين، قبل أن يحدث تدخل عسكري فرنسي من قبل ألف جندي، بقيادة الجنرال هامبرت، وانضم إليهم 5000 من الثوار المحليين في أغسطس (آب)، وحققوا بعض النجاح بالفعل، خاصةً عندما هزم 2000 منهم 6000 من القوات البريطانية، وأجبروهم على الفرار في معركة مدينة (كاسلبار) الشهيرة.

لم تستغرق هذه الصحوة وقتًا طويلًا، قبل أن تسيطر عليها القوات البريطانية في أيام معدودة، وتسحقها وتسحق معها جنود الجنرال هامبرت ومن انضم إليهم من الثوار، وربما دانت السيطرة للإمبراطورية حينها، لكن جذور الثورة ظلت كامنة في نفوس الأيرلنديين بلا شك، مع طموح لا يخفت بتكرار المشهد المسلح، ونهوض ثورة أخرى على البريطانيين، والوصول لانفصال واستقلال أيرلندا، وظلت الأمور على ما هي عليه بلا تغييرٍ كبير، طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقامت عدة دعوات ومحاولات لكنها فشلت قبل أن تبدأ، وبدا وكأن الأمر بحاجة لمعجزة حقيقية، حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتجدد معها أمل الأيرلنديين في ثورة أخرى.

في أبريل (نيسان) من عام 1916، وتحت قيادة معلم اللغة الأيرلندية باتريك بيرس، وبتنظيم من المجلس العسكري لمنظمة الإخوان الأيرلنديين الجمهوريين، قام الثوار بمهاجمة نقاط ومواقع رئيسة في العاصمة دبلن، واستولوا عليها، قبل أن يعلنوا قيام الجمهورية الأيرلندية، وعلى الفور ردت الإمبراطورية البريطانية، الغارقة حينها حتى النخاع في أتون الحرب العالمية الأولى ومواجهة قوات المحور، بإرسال آلاف من الجنود لاستعادة السيطرة على العاصمة، ولقمع الانتفاضة في مدن أيرلندا الأخرى قبل أن تستشري، وتفقد بريطانيا العظمى السيطرة على الدولة بالكامل.

شهدت شوارع دبلن، بدءًا من يوم 24 أبريل (نيسان)، حرب شوارع ضروسًا بين الأيرلنديين، الذين أقاموا متارس وفخاخًا في كل الأماكن التي يمكن الوصول إليها في العاصمة، وبين البريطانيين الذين أتوا بقوة عسكرية هائلة، اعتمدت في أساسها على فرق الأعداد بين القوات النظامية والثوار، واعتمدت أيضًا على المدفعية التي دكت كل شبر في دبلن بلا تمييز، حربٌ استمرت لمدة ستة أيام فقط وحتى يوم 29، قبل أن يعلن الأيرلنديون الاستسلام لفارق القوة الضخم بينهم وبين تسليح الإمبراطورية، فضلًا عن الفروق الفردية بين الجنود الإنجليز المدربين جيدًا، وبين الثوار الذي يقاتلون بأسلوب الحرب الاعتيادية، وبتدريب عسكري نظامي تقليدي، وبخبرة ضئيلة جدًا في قتال الشوارع وحروب العصابات، المختلف تمامًا عن المدرسة العسكرية التقليدية، الأمر الذي سيتذكره عبقري أيرلندا فيما بعد.

بالرغم من ذلك فإن فارق الضحايا العسكري من الجانبين كان لصالح الثوار، وربما مثلت المدرسة العسكرية البريطانية القيم التدريبية العليا في هذا الوقت، وهو البساط الذي سحبه الأمريكيون ببطء حينها، قبل أن يهزموهم في الولايات المتحدة، إلا أن الثوار الأيرلنديين، مدفوعين بكل مقتهم للاحتلال ورغبتهم العارمة في التحرر، ألحقوا صفوف البريطانيين بخسائر حقيقية وصلت لـ200 جندي من الـ500 قتيل، وهم إجمالي القتلى الذين سقطوا في الستة أيام، بينما كانت نسبة القتلى في صفوف الثوار ما بين الـ 70:80 ثائرًا، وأصيب أكثر من 2600 أيرلندي مدني جراء القصف المدفعي المكثف.

فَعّلت السلطات البريطانية إجراءات عقابية واسعة النطاق، بعد إخماد الثورة التي عرفت بانتفاضة عيد الفصح، فأعلنت حالة الطوارئ، ووضعت أيرلندا بالكامل تحت حكم القوانين العرفية، واعتقلت أكثر من 3500 شخص معظمهم لا علاقة له بالثورة على الإطلاق، وأرسلتهم إلى معسكرات اعتقال في ويلز، بينما أجرت محاكمات عسكرية بالغة السرعة للقادة المسؤولين، وعلى رأسهم أعضاء المجلس العسكري الأيرلندي الثوري السبعة، والأستاذ باتريك بيرس وآخرين، ثم أعدمتهم جميعًا، لتوجه رسالة عقابية عنيفة، وتسدل الستار على ما حدث.

كانت الهزيمة قاسية، لكنها فتحت أعين الناس على مفاهيم الحرية التي يطالب بها شقٌّ من الأيرلنديين، وساهمت في تكوين حاضنة شعبية متنامية، تطالب بإصرار بالاستقلال التام عن الإمبراطورية، ووضح أثر ذلك بعدها بعامين فقط، في ديسمبر (كانون الأول) لعام 1918، حيث فاز الجمهوريون، ممثلين في حزبهم السياسي شين فاين، في الانتخابات العامة الأيرلندية لأول مرة بـ73 مقعدًا، بعد عقود من سيطرة الحزب الوطني البرلماني، رافضين بعدها التوجه لمبنى البرلمان العام في لندن، وأقاموا أول جلسة برلمان في دبلن فيما عدته الإمبراطورية خيانةً عظمى لسيادتها.

هذه الحاضنة تحديدًا ستكون الملاذ والمأوى لأحد المعتقلين في السجون البريطانية، والذي كان عضوًا في تنظيم الإخوان الجمهوريين، وكان من ضمن المتمردين المقاتلين في انتفاضة عيد الفصح أيضًا، المعتقل الذي سيعي الدرس جيدًا، وسيخرج ليغير كل شيء.

صعود العبقري

في يومٍ من الأيام سيصبح رجلًا عظيمًا، وسيحقق أشياءً عظيمة لأيرلندا. – مايكل جون، متحدثًا قبل وفاته عن رؤيته لمستقبل ابنه، مايكل كولنز، البالغ من العمر 6 سنوات.

نشأ الطفل مايكل في سنواته الأولى لأب يعمل بالزراعة، وكان عضوًا ناشطًا في الحزب القومي الأيرلندي، ولم يبد والده أستاذ الرياضيات أيضًا والمتوفى ولدى مايكل 7 سنوات، بذلك التأثير في حياة ابنه بقدر شخصين آخرين، دينيس ليون أستاذه الأقرب في مدرسة وود فيلد، وحداد القرية جيمس سانتري، اثنان زرعا في مايكل كراهية الاحتلال البريطاني الشديدة، وألقيا في نفسه بذرة فكرة، لم تلبث أن نمت لتستولي على كيانه كله وتصبح مشروع حياته، فكرة «استقلال أيرلندا».

انتهى كولنز من تعليمه في سن الثانية عشر، وكان قارئًا نهمًا طوال حياته، منتقلًا إلى لندن في سن الخامسة عشر ليعمل كناسخ هناك، ولينضم أيضًا إلى الـIRB، أو تنظيم الإخوان الجمهوريين الأيرلنديين، وليعمل معهم سرًّا على تحقيق قائمة أهدافهم وعلى رأسها استقلال الدولة، ثم عاد في عام 1916 إلى دبلن ليشارك في حرب انتفاضة عيد الفصح، في منصب مساعد أحد قادة الانتفاضة الذين أُعدِموا فيما بعد، الأيرلندي الشهير جوزيف بلانكيت، وليتم اعتقال كولنز بعدها ضمن الآلاف الذين اعتقلهم البريطانيون.

امتلك مايكل كولنز عدة شهور في المعتقل، ليفكر في إجابة سؤال رئيس واحد هو: لماذا فشلت الانتفاضة؟ وأتبع السؤال بمجموعة من الأسئلة الأخرى، ومن ثم دراسة للعمل الثوري الأيرلندي على مدار تاريخه الطويل، ودراسة أصغر الانتفاضات قبل أضخمها، وتحديد مكامن الفشل فيها، ويمكن القول إن هذه الفترة، على قصرها، ساهمت في تشكيل إستراتيجية كولنز للتحرك بعد الخروج، الإستراتيجية العسكرية التي ستتيح له فيما بعد سد ثغرات العمل الثوري الأيرلندي، والاستفادة مما حدث في إنشاء انتفاضة أقوى تحقق أهداف الاستقلال فعليًّا.

كان الخطأ الأساسي الذي أشار له كولنز هو «غياب التنظيم»، لذلك وعندما عاد إلى دبلن لعب على محورين بالغي الذكاء، أولهما هو رصده للمنظمات الفاعلة، المكتسبة زخمًا شعبيًّا من رحم انتفاضة عيد الفصح، فوجد منظمته الأساسية IRB، وحزب شين فاين شديد الفعالية سياسيًّا، ومنظمة جديدة تدعى «المتطوعين الأيرلنديين»، المنظمة التي تعتبر أساس الجيش الجمهوري الأيرلندي IRA فيما بعد، وفي السنوات القليلة التالية وحتى بدء العمل المسلح على نطاق واسع، سينخرط مايكل كولنز في الثلاثة كيانات، وسيلعب دورًا رئيسًا فيهم، وفي إنشاء شبكة تواصل وتنسيق عالية المستوى بينهم.

أما المحور الثاني فكان بداية عمله في منظمة المساعدات الوطنية المدمجة ANA، وهي المنظمة التي عملت على توفير مساعدات مالية وعينية، لأرامل وأيتام أولئك الذي قتلوا أو اعتقلوا في انتفاضة الفصح، وأيضًا توفير مساعدات لمن لا يوجد لهم دخل وتضرروا من نفس الأحداث، كان عمله شديد الأهمية، وأتاح له إنشاء شبكة ضخمة النطاق من المعارف والاتصالات، التي أفادته كثيرًا عند اندلاع المواجهات، فضلًا عن إنشاء قاعدة شعبية شديدة القوة فيما بعد.

بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على خروجه من المعتقل، وفي فبراير (شباط) من عام 1917، أصبح كولنز عضوًا في المجلس الأعلى للـIRB، ثم بعدها بفترة قليلة أصبح سكرتير المنظمة، ثم في صيف عام 1919 أصبح رئيسًا لها، وأتاح له هذا التدرج في المناصب مساحةً واسعةً من النفوذ والتأثير في علاقات الـIRB مع الكيانات الأيرلندية الثورية الأخرى.

حرب المعلومات

«لا يوجد أي جُرم في إيجاد وقتل الجواسيس والمخبرين في أوقات الحرب، هم أفسدوا ودمروا بلا أثر، وأنا عاقبتهم بجنس ما فعلوا». مايكل كولنز متحدثًا عن يوم الأحد الدموي، حيث قام بعمليات إعدام فوري لجواسيس بريطانيين في دبلن.

من ضمن أكبر نقاط الفشل التي رصدها كولنز، أثناء الانتفاضات السابقة تاريخيًّا، هي نقص المعلومات، حيث وجد مايكل أن البريطانيين يعرفون عن الثوار تقريبًا كل شيء، بينما يجهلون هم عن الاحتلال كل شيء، عرف كولنز أثناء شهور المعتقل أن هذه المعادلة لا بد وأن تتبدل، إن كان للثورة أي فرصة لأن تنتصر بأي شكل.

في البدء وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1917، تولى إيمون دي فاليرا، الناجي الوحيد من عمليات إعدام قادة انتفاضة الفصح، منصب رئاسة حزب شين فاين، وهو نفس الشهر الذي أصبح فيه كولنز عضوًا في الهيئة العليا للحزب، ثم بعدها بأيام أعيد انتخاب إيمون كرئيس لمنظمة المتطوعين الأيرلنديين، التي ستصبح الجيش الجمهوري الأيرلندي، ليُعيَن كولنز في منصب مدير التخطيط، ثم قائدًا عامًا، ثم يأتي مارس (آذار) من العام التالي 1918 ليصبح كولنز مدير استخبارات المنظمة، المنصب الذي كان يريده دائمًا، وليمتلك كولنز بذلك ثلاثة مناصب رئيسة وبالغة الحساسية، في الثلاثة كيانات الثورية الكبرى في أيرلندا.

أنشأ كولنز أكبر شبكة استخبارات شهدتها أيرلندا حتى تاريخه، شبكة امتدت من أطراف أيرلندا إلى قلب لندن نفسها، وأصبح له جواسيس في كل مكان يمكن الوصول إليه، وبلغت دقة الشبكة درجة سمحت للقيادات الثورية، بالتقاط الكثير من الرسائل البريطانية السرية، الموجهة للشرطة الملكية الأيرلندية العسكرية RIC، وشرطة العاصمة دبلن DMP، وهما الكيانان الأمنيان المنوط بهما حكم أيرلندا لصالح البريطانيين، وكانت عمليات الالتقاط تتم قبل وصول الرسائل إلى وجهتها بالأساس، ليعرف كولنز ما فيها قبل وصولها إلى أجهزة دبلن الأمنية.

هذه الشبكة تحديدًا، مع تصاعد شعبيته في الأوساط الأيرلندية، جعلته المطلوب رقم واحد في أيرلندا للسلطات البريطانية، لمدة تقترب من ثلاث سنوات تالية، وكان محرضًا أساسيًّا على عدم ذهاب أعضاء الشين فاين للندن، في ديسمبر (كانون الأول) من نهاية عام 1918، بعد انتخابهم لعضوية البرلمان العمومي للإمبراطورية، والذي كان هو من ضمن أعضائه أيضًا، فضلًا عن قيام السلطات البريطانية قبلها بأشهر، في مايو (أيار)، باعتقال إيمون دي فاليرا وقادة الشين فاين بالكامل، بينما لم يستطيعوا الوصول لكولنز، مما ترك له السيطرة الكاملة على الحركة الثورية الأيرلندية، وكان هذا خطأ ضخمًا سيدفع البريطانيون ثمنه فيما بعد.

بداية الثورة

«كان أيرلنديًّا وطنيًّا حقيقيًّا، رجلًا بلا خوف، عندما تزدهر أيرلندا وتتقدم وتصبح دولة فاعلة ومنتجة، ستكون مدينة بذلك لحياته وموته». – وينستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأشهر والسياسي البريطاني الصاعد حينها، متحدثًا عن كولنز، بعد مقابلته أثناء مفاوضات الهدنة، 19211.

يمكننا اعتبار الأسبوع الثالث من يناير (كانون الثاني) من عام 1919، هو بداية التمرد المسلح الحقيقي، والأكثر نجاعة لأيرلندا ضد الإمبراطورية البريطانية، كانت البداية كما قلنا بوازع من كولنز، لأعضاء الشين فاين الذين نجحوا في الانتخابات البرلمانية البريطانية العامة، ليقرروا عدم الذهاب إلى لندن وإقامة برلمان أيرلندي خالص في دبلن، وعقدوا الجلسة الأولى بالفعل في 21 يناير (كانون الثاني)، فيما عدته بريطانيا خيانةً عظمى، وفي نفس اليوم هاجمت مجموعة من الثوار المحليين نقطة شرطة في مقاطعة تيبيراري، ليقتلوا اثنين من رجالها، وليؤرخ هذا الحادث على أنه الشرارة الأولى لحرب الاستقلال، والتي سمى الثوار أنفسهم بعدها مباشرة IRA، أو ما يعرفه العالم بالجيش الجمهوري الأيرلندي.

في الوقت الذي توالت فيه ضربات الجيش الجمهوري على البريطانيين والقوات الحكومية في أيرلندا، ونشرت لندن جواسيسها في كل مكان للعثور على كولنز ووقف ما يحدث، كان هو بنفسه في قلب عاصمة الإمبراطورية يخطط لتحرير إيمون دي فاليرا من سجن قلعة لينكولن شديدة الحراسة، فيما بدا وأنه جنون تام، لكن هذا الجنون نجح، وفي 3 فبراير (شباط)، وبعد الشرارة الأولى بأسبوعين فقط، نجح كولنز ورفاقه في تحرير إيمون من قبضة البريطانيين، ثم عاد إلى دبلن بسلام ليخطط مرة أخرى لكسر حراسة سجن ماونتجوي، ولينجح مرة أخرى في تحرير 20 ثائرًا أيرلنديًّا من هناك، وتنظيم هروب جماعي ناجح لهم.

ليقاتل كولنز الشرطة العسكرية الملكية RIC، كان عليه أن يسد ثغرة أخرى في العمل الثوري المسلح، فحلَّ التركيبة العسكرية الثورية بالكامل، وأعاد تشكيل الثوار في مجموعات صغيرة سماها «مجموعات IRA الطائرة»، كل مجموعة لا يزيد عددها على الثلاثين رجلًا، مسلحة تسليحًا خفيفًا، تقوم بهجمات مفاجئة على مراكز وكمائن الشرطة العسكرية، ثم تنسحب مخلفة أكبر قدر من الضرر؛ مما أدى بالسلطات البريطانية لإغلاق كافة الأقسام والثكنات الصغيرة لـ RIC، ونقل جنودها إلى الثكنات الأكبر شديدة الحراسة.

في نفس الوقت كان كولنز يفكر في كيفية مواجهة تخطيط الجانب الأخطر، شرطة العاصمة DMP، والتي امتلكت أقسامًا مرتبة حسب الأبجدية الإنجليزية في كل مكان في أيرلندا، واختص القسم G بكونه قسم المخابرات الخاص بالشرطة، ممتلكًا شبكة عالية الكفاءة من الجواسيس والمخبرين في كل قرية وشبر على الأراضي الأيرلندية، وهي الشبكة التي كانت كفيلة بإفساد كل مخطط ثوري أيرلندي على مر السنوات السابقة، ثم توصل لوسيلة كفيلة بتفكيك هذه الشبكة كليًّا.

بعد انتهائه من تحرير من يريد من السجون البريطانية، وفي 7 أبريل (نيسان) من عام 1919، قام كولنز بمساعدة أحد جواسيسه الخاصين بالتسلل إلى قلب قيادة القسم G الاستخباراتي، وقضى الليلة كاملةً في مراجعة ونسخ ملفات شبكة الجواسيس البريطانية العاملة في أيرلندا، كانت هذه الليلة بمثابة نقطة التحول في العمل المسلح الأيرلندي، ووصل كولنز إلى نتيجة قاطعة في الصباح الباكر أنه للحصول على أي مكاسب وتحقيق أي نجاحات ممكنة، ينبغي على الجيش الجمهوري والثوار عمومًا استهداف هذه الشبكة في المقام الأول، وكان رأيه في هذا شديد المنطقية، قائلًا إن الإمبراطورية تستطيع وضع بضعة جنود مكان كل جندي يقتله الثوار، لكنهم لا يستطيعون استبدال كل جاسوس يُقتل بنفس السرعة والكفاءة، وستصل الرسالة لبقية الجواسيس أن العمل مع السلطات المحلية الموالية للاحتلال ستكلفهم حياتهم، وحتى وإن قبل بعضهم بالمخاطرة فلن يكونوا بنفس كفاءة وخبرة الجواسيس الذين تم اغتيالهم، فضلًا عن حاجتهم لمدة طويلة للتكيف مع الوضع المحلي.

إذًا من ناحية وطوال عام 1919، كثف الثوار هجماتهم على الشرطة الملكية العسكرية، مستولين في هذه الهجمات على ما أمكن من أسلحتهم وذخائرهم، ومن ناحية أخرى كون كولنز مجموعةً من مقاتليه المنضمين إلى جهاز استخبارات الجيش الجمهوري، والذين عرفوا اختصارًا بـ «الفرقة»، وكانت مهمتهم مواجهة القسم G وتفكيك شبكة الجواسيس بكفاءة وسرعة، وهو ما حدث بالفعل حيث اتبعوا منهجًا يقضي بإرسال تحذيرات إلى الجواسيس وضباط المخابرات بالتوقف عن العمل لصالح البريطانيين والاستقالة، بناءً على المعلومات التي حصل عليها كولنز أثناء اختراقه للقسم، فإن لم يستجيبوا في النهاية يقوم أعضاء الفرقة باغتيالهم، وكانت الوسيلة شديدة النجاح حتى أنه وبعد أشهر قليلة لم يعد أحد يرغب في العمل لصالح القسم G، واستقال عدد من كبار الضباط حفاظًا على حياتهم، وتم تفكيك الشبكة البريطانية بمتتالية ناجحة ومتقنة.

نهاية الملحمة

بالرغم من تزايد القمع البريطاني، ومحاولتهم الحثيثة لاصطياد قيادات العمل الثوري، ووقف سيل الهجمات المنهمر بلا انقطاع، والأهم اصطياد العقل المدبر الحركي مايكل كولنز بأي ثمن، كانت الأمور تسير في اتجاه النجاح الأيرلندي الثوري باستمرار وسرعة، وفي بدايات عام 1920 بدأت تنهار القبضة البريطانية على أيرلندا، وانخفضت معدلات الالتحاق بالشرطة الملكية العسكرية، وتجنب الأيرلنديون تمامًا الانضمام للقسم G، ولأن الأمور تسير بالنسبة للندن من سيء لأسوأ، فقد أرسلت تعزيزات على دفعتين، في مارس (آذار) وفي سبتمبر (أيلول) من نفس العام، كل دفعة مكونة من 1500 ضابط عسكري، في محاولات حثيثة لاستعادة السيطرة على الأمور المنفلتة.

توضح تقديرات الأعداد التاريخية للجانبين مدى عبقرية التخطيط الحركي لكولنز، حيث نجد أن الجانب البريطاني اشتمل على أكثر من 50 ألف جندي بريطاني، و15 ألفًا من جنود الشرطة الملكية، وبضعة آلاف من ضباط التعزيزات، بينما على الجانب الآخر كان تعداد الثوار الأيرلنديين قرابة ثلاثة آلاف فقط، ويمكن رؤية هذه العبقرية أكثر في مقر تمركز الجيش الجمهوري الأقوى، مقاطعة كورك، حيث بلغ تعداد الجانب البريطاني أكثر من 12 ألف جندي وضابط، مقابل 300 ثائر فقط!

مثل كولنز أحد أسوأ كوابيس الإمبراطورية على مدار تاريخها الاحتلالي الطويل، واعتبرت لندن أن نقطة قوته الرئيسية، بجانب تخطيطه العسكري شديد الإتقان، هي قدرته الفائقة على تعقب أعدائه والقصاص منهم، مع امتلاكه الصبر اللازم والأنفاس الطويلة لتحقيق ذلك، مما أدى إلى انعكاس ذلك على الثوار أنفسهم، ويمكننا ضرب مثال واحد على ذلك بالضابط البريطاني لي ويلسون، الذي عامل السجناء الأيرلنديين في عيد انتفاضة عيد الفصح بعنف شديد، وعندما رآه كولنز حينها حفرت الحادثة في ذهنه، وأقسم على الانتقام، وبعدها بأكثر من أربع سنوات، وفي يونيو (حزيران) من عام 1920، وصلت لكولنز معلومة تكشف عن مكان تواجد لي، والذي عمل حينها في الشرطة العسكرية الملكية، وقام بتنفيذ عملية سريعة أسفرت عن قتله.

جاءت محاولات السلطات البريطانية، لاعتقال أو اغتيال كولنز، بفائدة عكسية للثورة الأيرلندية، حيث أضافت إلى أسطورته وشعبيته الضخمة بعد نجاته منها كلها، وكان عنصره الأهم في ذلك أن جميع الأذرع البريطانية الأمنية في دبلن لم يكن معها صورة واضحة له، ولم يكونوا يعرفون هيئته لدرجة اقترابه في بعض الأحيان من كمائن بريطانية، كأي مواطن أيرلندي مسالم، وحصوله على معلومات عابرة عبر الحديث الودي مع جنودها، ليتحول بمرور الوقت إلى «شبح» تطارده بريطانيا بلا أمل.

في مايو من عام 1921، شن الجيش الجمهوري أكبر هجوم له، عن طريق 120 ثائرًا، على أحد أكبر مكاتب العاصمة دبلن، وبالرغم من أن نتائج الهجوم كانت عنيفة على الجانب الأيرلندي، إلا أنهم نجحوا في نسفه، وفي إرسال «تأثير نفسي دقيق وعنيف» إلى لندن، والملك جورج الخامس، الذي أعلن استعداد الحكومة البريطانية لمحادثات سلام، وبالفعل عقدت الهدنة في 11 يوليو (تموز)، وأرسل كولنز ضمن فريق المفاوضين، بالرغم من اعتراضه الشديد على التفاوض، لكن وبحكم اتباع أوامر قائده الأعلى إيمون دي فاليرا، امتثل للأمر، وبعد أشهر من المفاوضات وفي ديسمبر (كانون الأول)، وقع الجانبين اتفاقية نصت على منح الاستقلال لـ26 مقاطعة أيرلندية مكونة جمهورية أيرلندا المستقلة، مع احتفاظ الجانب البريطاني بـ6 مقاطعات في الشمال تظل تابعة للإمبراطورية العظمى.

عرف كولنز أنه «يوقع شهادة وفاته» كما قال هو بنفسه، لأن المعاهدة وإن كانت معجزة تاريخية تحدث للمرة الأولى، وإن مثلت مساحة واسعة من الحرية ستفضي في نهاية الأمر لاستقلال الـ6 مقاطعات الأخرى، إلا أنها ستلقى معارضة كبيرة من رفاق كفاحه في الجيش الجمهوري، الذين لن يرضوا إلا باستقلال كامل ثمنًا لكل الدماء وكفاح السنوات، عرف كولنز ذلك ولكنه وقع إيمانًا بقيمة هذه المساحة ومعجزة تحققها، في مواجهة قوة عسكرية بهذا الحجم الضخم بإمكانيات بالغة الضآلة.

في يونيو (حزيران) من عام 1922، وقع ما كان يخشاه كولنز بالفعل، وبدأت الحرب الأهلية الأيرلندية مقسمة الجيش الجمهوري إلى قسمين، قسم مؤيد لمعاهدة الاستقلال وآخر معارض لها، الحرب التي أسعدت الإمبراطورية كثيرًا بالطبع، وبالرغم من نبل فكرتي القسمين ومعتقداتهما، إلا أنها حرب لم تخدم إلا لندن، وأتت ثمرتها الكبرى في مساء 22 أغسطس من نفس العام، عندما ذهب كولنز، جنرال الجيش الجمهوري ومسؤوله الأهم، في قافلة عسكرية صغيرة وبسيطة التسليح، إلى معقل جيش أيرلندا المستقلة IFSA، الطرف المناهض للمعاهدة، في محاولة لعقد هدنة بينهما. كان كولنز حينها مؤمنًا بأنهم سيحاولون اغتياله، إلا أنه صمم على الذهاب مطلقًا مقولته الشهيرة: «أصدقائي وزملاء الكفاح لن يحاولوا قتلي»، لكن العكس ما حدث، وأقام الـIFSA كمينًا ناجحًا قتلوا فيه العدو الأكبر للإمبراطورية في العقد الثاني من القرن العشرين، مسدلين الستار بذلك على أسطورة الجنرال مايكل كولنز، العقل العسكري والثوري الأهم والأكثر ألمعية في التاريخ الأيرلندي.

المصدر