لو عدنا بالزمن إلى بدايات القرن الماضي، وتحديدًا في الفترة من عام 1910 إلى 1920، وسألنا أي شخص من أقاصي آسيا إلى غرب الولايات المتحدة، ومن جرينلاند شمالًا وحتى كيب تاون جنوبًا، عن أقوى كيان عالمي في هذا العصر، لحصلنا على إجابة واحدة قاطعة، بإمبراطورية امتدت على مساحة تقترب من 300 مليون كيلومترًا مربعًا، لتصبح الإمبراطورية الأكبر في التاريخ، وجيش هو الأقوى عالميًّا، وبحرية تسيطر على جميع المسطحات المائية الكبرى على الأرض، واقتصاد ظل حتى بداية الحرب العالمية الأولى لا تنافسه أي دولة. باختصار، ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان العالم بأكمله يتفق على إجابة واحدة: «الإمبراطورية البريطانية»، بينما حلق فوق رؤوس الجميع سؤال بدهي: كيف يمكن هزيمة كيان كهذا؟
حسنًا، يمكننا الحصول على الإجابة من رجل واحد فقط!
ما قبل الأسطورة
استكانت أيرلندا منذ عام 1691، وحتى نهاية القرن الثامن عشر تحت الاحتلال البريطاني، قبل أن تقوم بثورتها العارمة في عام 1798، وهي ثورتها المسلحة الأولى التي نظمتها وقادتها منظمة رجال أيرلندا المتحدين، المنظمة التي استمدت أساسها من المبادئ الجمهورية الأيرلندية، وأفكارها الرئيسة من ثورتي فرنسا والولايات المتحدة. قامت الثورة في مايو (أيار)، قبل أن تسيطر عليها القوات المسلحة في الـ20 من يونيو (حزيران) التالي مباشرة، واستمرت بعض المناوشات من قبل الأيرلنديين على مدار الشهرين التاليين، قبل أن يحدث تدخل عسكري فرنسي من قبل ألف جندي، بقيادة الجنرال هامبرت، وانضم إليهم 5000 من الثوار المحليين في أغسطس (آب)، وحققوا بعض النجاح بالفعل، خاصةً عندما هزم 2000 منهم 6000 من القوات البريطانية، وأجبروهم على الفرار في معركة مدينة (كاسلبار) الشهيرة.
رسم مطابق لفرار الجنود البريطانيين في موقعة كاسلبار، 1798
لم تستغرق هذه الصحوة وقتًا طويلًا، قبل أن تسيطر عليها القوات البريطانية في أيام معدودة، وتسحقها وتسحق معها جنود الجنرال هامبرت ومن انضم إليهم من الثوار، وربما دانت السيطرة للإمبراطورية حينها، لكن جذور الثورة ظلت كامنة في نفوس الأيرلنديين بلا شك، مع طموح لا يخفت بتكرار المشهد المسلح، ونهوض ثورة أخرى على البريطانيين، والوصول لانفصال واستقلال أيرلندا، وظلت الأمور على ما هي عليه بلا تغييرٍ كبير، طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقامت عدة دعوات ومحاولات لكنها فشلت قبل أن تبدأ، وبدا وكأن الأمر بحاجة لمعجزة حقيقية، حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتجدد معها أمل الأيرلنديين في ثورة أخرى.
في أبريل (نيسان) من عام 1916، وتحت قيادة معلم اللغة الأيرلندية باتريك بيرس، وبتنظيم من المجلس العسكري لمنظمة الإخوان الأيرلنديين الجمهوريين، قام الثوار بمهاجمة نقاط ومواقع رئيسة في العاصمة دبلن، واستولوا عليها، قبل أن يعلنوا قيام الجمهورية الأيرلندية، وعلى الفور ردت الإمبراطورية البريطانية، الغارقة حينها حتى النخاع في أتون الحرب العالمية الأولى ومواجهة قوات المحور، بإرسال آلاف من الجنود لاستعادة السيطرة على العاصمة، ولقمع الانتفاضة في مدن أيرلندا الأخرى قبل أن تستشري، وتفقد بريطانيا العظمى السيطرة على الدولة بالكامل.
شهدت شوارع دبلن، بدءًا من يوم 24 أبريل (نيسان)، حرب شوارع ضروسًا بين الأيرلنديين، الذين أقاموا متارس وفخاخًا في كل الأماكن التي يمكن الوصول إليها في العاصمة، وبين البريطانيين الذين أتوا بقوة عسكرية هائلة، اعتمدت في أساسها على فرق الأعداد بين القوات النظامية والثوار، واعتمدت أيضًا على المدفعية التي دكت كل شبر في دبلن بلا تمييز، حربٌ استمرت لمدة ستة أيام فقط وحتى يوم 29، قبل أن يعلن الأيرلنديون الاستسلام لفارق القوة الضخم بينهم وبين تسليح الإمبراطورية، فضلًا عن الفروق الفردية بين الجنود الإنجليز المدربين جيدًا، وبين الثوار الذي يقاتلون بأسلوب الحرب الاعتيادية، وبتدريب عسكري نظامي تقليدي، وبخبرة ضئيلة جدًا في قتال الشوارع وحروب العصابات، المختلف تمامًا عن المدرسة العسكرية التقليدية، الأمر الذي سيتذكره عبقري أيرلندا فيما بعد.
بالرغم من ذلك فإن فارق الضحايا العسكري من الجانبين كان لصالح الثوار، وربما مثلت المدرسة العسكرية البريطانية القيم التدريبية العليا في هذا الوقت، وهو البساط الذي سحبه الأمريكيون ببطء حينها، قبل أن يهزموهم في الولايات المتحدة، إلا أن الثوار الأيرلنديين، مدفوعين بكل مقتهم للاحتلال ورغبتهم العارمة في التحرر، ألحقوا صفوف البريطانيين بخسائر حقيقية وصلت لـ200 جندي من الـ500 قتيل، وهم إجمالي القتلى الذين سقطوا في الستة أيام، بينما كانت نسبة القتلى في صفوف الثوار ما بين الـ 70:80 ثائرًا، وأصيب أكثر من 2600 أيرلندي مدني جراء القصف المدفعي المكثف.
ثوار أيرلندا يقطعون أحد الشوارع أثناء انتفاضة عيد الفصح، 1916
فَعّلت السلطات البريطانية إجراءات عقابية واسعة النطاق، بعد إخماد الثورة التي عرفت بانتفاضة عيد الفصح، فأعلنت حالة الطوارئ، ووضعت أيرلندا بالكامل تحت حكم القوانين العرفية، واعتقلت أكثر من 3500 شخص معظمهم لا علاقة له بالثورة على الإطلاق، وأرسلتهم إلى معسكرات اعتقال في ويلز، بينما أجرت محاكمات عسكرية بالغة السرعة للقادة المسؤولين، وعلى رأسهم أعضاء المجلس العسكري الأيرلندي الثوري السبعة، والأستاذ باتريك بيرس وآخرين، ثم أعدمتهم جميعًا، لتوجه رسالة عقابية عنيفة، وتسدل الستار على ما حدث.
كانت الهزيمة قاسية، لكنها فتحت أعين الناس على مفاهيم الحرية التي يطالب بها شقٌّ من الأيرلنديين، وساهمت في تكوين حاضنة شعبية متنامية، تطالب بإصرار بالاستقلال التام عن الإمبراطورية، ووضح أثر ذلك بعدها بعامين فقط، في ديسمبر (كانون الأول) لعام 1918، حيث فاز الجمهوريون، ممثلين في حزبهم السياسي شين فاين، في الانتخابات العامة الأيرلندية لأول مرة بـ73 مقعدًا، بعد عقود من سيطرة الحزب الوطني البرلماني، رافضين بعدها التوجه لمبنى البرلمان العام في لندن، وأقاموا أول جلسة برلمان في دبلن فيما عدته الإمبراطورية خيانةً عظمى لسيادتها.
هذه الحاضنة تحديدًا ستكون الملاذ والمأوى لأحد المعتقلين في السجون البريطانية، والذي كان عضوًا في تنظيم الإخوان الجمهوريين، وكان من ضمن المتمردين المقاتلين في انتفاضة عيد الفصح أيضًا، المعتقل الذي سيعي الدرس جيدًا، وسيخرج ليغير كل شيء.
صعود العبقري
في يومٍ من الأيام سيصبح رجلًا عظيمًا، وسيحقق أشياءً عظيمة لأيرلندا. – مايكل جون، متحدثًا قبل وفاته عن رؤيته لمستقبل ابنه، مايكل كولنز، البالغ من العمر 6 سنوات.
نشأ الطفل مايكل في سنواته الأولى لأب يعمل بالزراعة، وكان عضوًا ناشطًا في الحزب القومي الأيرلندي، ولم يبد والده أستاذ الرياضيات أيضًا والمتوفى ولدى مايكل 7 سنوات، بذلك التأثير في حياة ابنه بقدر شخصين آخرين، دينيس ليون أستاذه الأقرب في مدرسة وود فيلد، وحداد القرية جيمس سانتري، اثنان زرعا في مايكل كراهية الاحتلال البريطاني الشديدة، وألقيا في نفسه بذرة فكرة، لم تلبث أن نمت لتستولي على كيانه كله وتصبح مشروع حياته، فكرة «استقلال أيرلندا».
مايكل كولنز، في عمر8 سنوات
انتهى كولنز من تعليمه في سن الثانية عشر، وكان قارئًا نهمًا طوال حياته، منتقلًا إلى لندن في سن الخامسة عشر ليعمل كناسخ هناك، ولينضم أيضًا إلى الـIRB، أو تنظيم الإخوان الجمهوريين الأيرلنديين، وليعمل معهم سرًّا على تحقيق قائمة أهدافهم وعلى رأسها استقلال الدولة، ثم عاد في عام 1916 إلى دبلن ليشارك في حرب انتفاضة عيد الفصح، في منصب مساعد أحد قادة الانتفاضة الذين أُعدِموا فيما بعد، الأيرلندي الشهير جوزيف بلانكيت، وليتم اعتقال كولنز بعدها ضمن الآلاف الذين اعتقلهم البريطانيون.
امتلك مايكل كولنز عدة شهور في المعتقل، ليفكر في إجابة سؤال رئيس واحد هو: لماذا فشلت الانتفاضة؟ وأتبع السؤال بمجموعة من الأسئلة الأخرى، ومن ثم دراسة للعمل الثوري الأيرلندي على مدار تاريخه الطويل، ودراسة أصغر الانتفاضات قبل أضخمها، وتحديد مكامن الفشل فيها، ويمكن القول إن هذه الفترة، على قصرها، ساهمت في تشكيل إستراتيجية كولنز للتحرك بعد الخروج، الإستراتيجية العسكرية التي ستتيح له فيما بعد سد ثغرات العمل الثوري الأيرلندي، والاستفادة مما حدث في إنشاء انتفاضة أقوى تحقق أهداف الاستقلال فعليًّا.
كان الخطأ الأساسي الذي أشار له كولنز هو «غياب التنظيم»، لذلك وعندما عاد إلى دبلن لعب على محورين بالغي الذكاء، أولهما هو رصده للمنظمات الفاعلة، المكتسبة زخمًا شعبيًّا من رحم انتفاضة عيد الفصح، فوجد منظمته الأساسية IRB، وحزب شين فاين شديد الفعالية سياسيًّا، ومنظمة جديدة تدعى «المتطوعين الأيرلنديين»، المنظمة التي تعتبر أساس الجيش الجمهوري الأيرلندي IRA فيما بعد، وفي السنوات القليلة التالية وحتى بدء العمل المسلح على نطاق واسع، سينخرط مايكل كولنز في الثلاثة كيانات، وسيلعب دورًا رئيسًا فيهم، وفي إنشاء شبكة تواصل وتنسيق عالية المستوى بينهم.
كولنز أثناء سنوات انخراطه العسكري الأولى، انتفاضة عيد الفصح
أما المحور الثاني فكان بداية عمله في منظمة المساعدات الوطنية المدمجة ANA، وهي المنظمة التي عملت على توفير مساعدات مالية وعينية، لأرامل وأيتام أولئك الذي قتلوا أو اعتقلوا في انتفاضة الفصح، وأيضًا توفير مساعدات لمن لا يوجد لهم دخل وتضرروا من نفس الأحداث، كان عمله شديد الأهمية، وأتاح له إنشاء شبكة ضخمة النطاق من المعارف والاتصالات، التي أفادته كثيرًا عند اندلاع المواجهات، فضلًا عن إنشاء قاعدة شعبية شديدة القوة فيما بعد.
بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على خروجه من المعتقل، وفي فبراير (شباط) من عام 1917، أصبح كولنز عضوًا في المجلس الأعلى للـIRB، ثم بعدها بفترة قليلة أصبح سكرتير المنظمة، ثم في صيف عام 1919 أصبح رئيسًا لها، وأتاح له هذا التدرج في المناصب مساحةً واسعةً من النفوذ والتأثير في علاقات الـIRB مع الكيانات الأيرلندية الثورية الأخرى.
حرب المعلومات
«لا يوجد أي جُرم في إيجاد وقتل الجواسيس والمخبرين في أوقات الحرب، هم أفسدوا ودمروا بلا أثر، وأنا عاقبتهم بجنس ما فعلوا». مايكل كولنز متحدثًا عن يوم الأحد الدموي، حيث قام بعمليات إعدام فوري لجواسيس بريطانيين في دبلن.
من ضمن أكبر نقاط الفشل التي رصدها كولنز، أثناء الانتفاضات السابقة تاريخيًّا، هي نقص المعلومات، حيث وجد مايكل أن البريطانيين يعرفون عن الثوار تقريبًا كل شيء، بينما يجهلون هم عن الاحتلال كل شيء، عرف كولنز أثناء شهور المعتقل أن هذه المعادلة لا بد وأن تتبدل، إن كان للثورة أي فرصة لأن تنتصر بأي شكل.
في البدء وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1917، تولى إيمون دي فاليرا، الناجي الوحيد من عمليات إعدام قادة انتفاضة الفصح، منصب رئاسة حزب شين فاين، وهو نفس الشهر الذي أصبح فيه كولنز عضوًا في الهيئة العليا للحزب، ثم بعدها بأيام أعيد انتخاب إيمون كرئيس لمنظمة المتطوعين الأيرلنديين، التي ستصبح الجيش الجمهوري الأيرلندي، ليُعيَن كولنز في منصب مدير التخطيط، ثم قائدًا عامًا، ثم يأتي مارس (آذار) من العام التالي 1918 ليصبح كولنز مدير استخبارات المنظمة، المنصب الذي كان يريده دائمًا، وليمتلك كولنز بذلك ثلاثة مناصب رئيسة وبالغة الحساسية، في الثلاثة كيانات الثورية الكبرى في أيرلندا.
كولنز، 1919
أنشأ كولنز أكبر شبكة استخبارات شهدتها أيرلندا حتى تاريخه، شبكة امتدت من أطراف أيرلندا إلى قلب لندن نفسها، وأصبح له جواسيس في كل مكان يمكن الوصول إليه، وبلغت دقة الشبكة درجة سمحت للقيادات الثورية، بالتقاط الكثير من الرسائل البريطانية السرية، الموجهة للشرطة الملكية الأيرلندية العسكرية RIC، وشرطة العاصمة دبلن DMP، وهما الكيانان الأمنيان المنوط بهما حكم أيرلندا لصالح البريطانيين، وكانت عمليات الالتقاط تتم قبل وصول الرسائل إلى وجهتها بالأساس، ليعرف كولنز ما فيها قبل وصولها إلى أجهزة دبلن الأمنية.
هذه الشبكة تحديدًا، مع تصاعد شعبيته في الأوساط الأيرلندية، جعلته المطلوب رقم واحد في أيرلندا للسلطات البريطانية، لمدة تقترب من ثلاث سنوات تالية، وكان محرضًا أساسيًّا على عدم ذهاب أعضاء الشين فاين للندن، في ديسمبر (كانون الأول) من نهاية عام 1918، بعد انتخابهم لعضوية البرلمان العمومي للإمبراطورية، والذي كان هو من ضمن أعضائه أيضًا، فضلًا عن قيام السلطات البريطانية قبلها بأشهر، في مايو (أيار)، باعتقال إيمون دي فاليرا وقادة الشين فاين بالكامل، بينما لم يستطيعوا الوصول لكولنز، مما ترك له السيطرة الكاملة على الحركة الثورية الأيرلندية، وكان هذا خطأ ضخمًا سيدفع البريطانيون ثمنه فيما بعد.
بداية الثورة
«كان أيرلنديًّا وطنيًّا حقيقيًّا، رجلًا بلا خوف، عندما تزدهر أيرلندا وتتقدم وتصبح دولة فاعلة ومنتجة، ستكون مدينة بذلك لحياته وموته». – وينستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأشهر والسياسي البريطاني الصاعد حينها، متحدثًا عن كولنز، بعد مقابلته أثناء مفاوضات الهدنة، 19211.