تابعتُ بعض التسجيلات الصوتية التي تم تسريبها من هاتف السيناتور محمد ولد غدة، وتابعتُ من بعد ذلك حلقة برنامج المشهد الدستوري التي استضافت السيناتور وخرجتُ من التسريبات والتسريبات المضادة بجملة من الملاحظات لعل من أبرزها:
(1) لقد تم الحديث في تسريبات الهاتف عن مبلغ زهيد لم يصل إلى مليوني أوقية قدمه رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو لمساعدة الفنانة والشيخة المعلومة منت الميداح
في أقامة حفل فني وسياسي باسم الشيوخ مناهض للتعديلات الدستورية. إن هذه المساهمة الزهيدة من طرف رجل أعمال بحجم ولد بوعماتو لشيخة وفنانة وشخصية وطنية بحجم المعلومة منت الميداح أقامت حفلا مناهضا للتعديلات الدستورية وكلف قرابة الخمسة ملايين ليؤكد بأن الشيوخ لم يتلقوا أموالا طائلة من رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو في مقابل إسقاط التعديلات الدستورية، فلو أنهم تلقوا أموالا مقابل إسقاط تلك التعديلات لسارع المسربون إلى كشفها، ومن المؤكد بأن الورع لن يمنعهم من كشفها. وفي المقابل فقد أكدت تسريبات حلقة المشهد السياسي بأن بعض الشيوخ تلقوا أموالا طائلة من النظام، وقدمت لهم إغراءات كبيرة للتصويت ب”نعم”، وكان من آخرها تعهد وزير الدفاع في يوم التصويت بأن باب مكتبه سيبقى مفتوحا أمام الشيوخ لتسوية كل المطالب العالقة من خلال الخط الساخن المفتوح مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وعلى الرغم من هذا التعهد وهذه الإغراءات فإن الشيوخ لم يطرقوا باب مكتب الوزير في ذلك اليوم.
لم يتلق الشيوخ أموالا طائلة مقابل التصويت ب”لا”، ولم يستجيبوا للإغراءات وللضغوط الكبيرة التي مورست ضدهم من أجل التصويت ب”نعم”، ولذلك فهم يستحقون التقدير والاحترام من طرف الجميع على تصويتهم ب”لا” على التعديلات الدستورية.
لقد حاول البعض أن يقلل من قيمة تصويت الشيوخ ب”لا”، وذلك بحجج عديدة منها أن الشيوخ تلقوا مبالغ مالية كبيرة من رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، وهذا لم يكن صحيحا حسب ما جاء في التسريبات والتسريبات المضادة، ومنها أيضا أن الشيوخ لم يصوتوا ب”لا” من أجل الوطن، بل إنهم صوتوا بها دفاعا عن مقاعدهم وعن مصالحهم الخاصة، وهذه حجة غير صحيحة أيضا، وذلك بدليل أن التصويت ب”نعم” هو الذي كان سيضمن لهم مصالحهم الخاصة في ظل نظام لا يقدم أبسط خدمة إلا لمن يسير في فلكه، ويستجيب لأوامره دون أدنى تفكير.
هناك من قال بأن الشيوخ قد صوتوا ب”لا” لضمان استمرار المجلس بتشكيلته الحالية، وهذا غير صحيح، فالشيوخ لحظة تصويتهم ب”لا” كانوا يتوقعون بأن ردة الفعل المناسبة التي سيتخذها الرئيس هي أنه سيجدد هذا المجلس، وسيحرم كل أعضائه الذين صوتوا ب”لا” من العودة إلى المجلس، وللرئيس القدرة على ذلك فهو يتحكم في أغلب البلديات، وأن يحرمهم كذلك من أي استفادة ـ ما دام هو الرئيس ـ من أي خدمة عامة حتى ولو كانت بسيطة. هذا هو ما كان يفكر فيه الشيوخ لحظة تصويتهم ب”لا” مما يعني بأنهم لم يصوتوا ب”لا” من أجل مكاسب خاصة، ولكن الشيء الذي حدث بعد ذلك هو أن ردة فعل الرئيس جاءت غير متوقعة، فبدلا من تجديد مجلس الشيوخ قرر الرئيس في خطوة ستضره كثيرا أن يلجأ إلى المادة 38 من الدستور الموريتاني.
يبقى أن أقول في هذه الجزئية، بأن الشيوخ قد وجهوا للرئيس محمد ولد عبد العزيز صفعة قوية لا تزال آثارها تتفاعل، هذا فيما يخص الجانب السياسي، ولكن هناك صفعة أخرى أشد خطورة تم توجيهها من طرف الشيوخ لهذا النظام، ولم تجد من يتوقف عندها.
إن أخطر ما قام به الشيوخ يتمثل في كونهم قد استطاعوا وباحترافية كبيرة أن يخدعوا الرئيس، والحرب خدعة. لقد استطاعوا وهم يعيشون في دولة بوليسية وأمنية أن يطمئنوا الرئيس وأن يوهموه، وحتى آخر لحظة، بأن التصويت ب “نعم” سيزيد على 45، فإذا بالتصويت ب”لا” يصل إلى 33.
إن مثل هذا ليعد ضربة في مقتل بالنسبة لنظام مخابراتي وبوليسي، وفي اعتقادي بأن تمكن الشيوخ من حجب اتجاه تصويتهم لآخر لحظة عن الرئيس، هو الذي تسبب في ردة فعل غير متوقعة، وهو الذي أربك الرئيس وجعله يتخذ قرارا أخر مرتجلا ستكون له كلفته الكبيرة على الرئيس نفسه. ولذا فلا تستغربوا أن الرئيس قد وضع الشيوخ الذين وجهوا لنظامه صفعتين قويتين أحداهما سياسية والأخرى أمنية، أن يضعهم على رأس لائحة الأعداء الذين يجب أن يتم التخلص منه وبأي ثمن.
(2)
لقد عمل النظام القائم على تمييع كل شيء في هذه البلاد، و نزع الهيبة من كل شيء، وأساء إلى كل المقدسات الوطنية وعلى رأسها المواد الأكثر تحصينا في الدستور الموريتاني. فبعد تمييع الأحزاب السياسية والصحافة والإدارة والمؤسسات التشريعية وبما فيها مجلس الشيوخ والذي أصبح يوصف من قبل أعلى سلطة في البلاد ـ وحتى من قبل ظهور نتائج الاستفتاء ـ بأنه وكر للرشوة والفساد، بعد كل ذلك جاء الدور على قطاع الدرك وهو القطاع الذي كان وإلى وقت قريب يحظى بشيء من التقدير والاحترام من طرف الكثير من الموريتانيين. فأي إساءة لقطاع الدرك أخطر من إظهار هذا القطاع بأنه قطاع يستغل المصائب والموت ولحظات الألم والحزن للتجسس على المواطنين ولتسريب مكالماتهم وأحاديثهم الخاصة ونشرها بشكل واسع عبر المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي؟ وأي إساءة أخطر من أن يتجسس هذا القطاع على الناس في أخص خصوصياتهم، وأن يستولي على صور عائلية في منتهى الخصوصية، وأن يمارس من بعد ذلك أقذر ابتزاز من خلال تلك الصور؟
(3)
كثر الحديث في هذه التسريبات عن رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو وعن تمويله للمعارضة، وعن دوره في إسقاط التعديلات الدستورية، وهنا في هذه الجزئية أريد أوضح جملة من الأمور:
أولها: لرجل الأعمال محمد ولد بوعماتو الحق ـ كل الحق ـ في أن يدعم أي حزب أو أي شخصية سياسية يشاطرها التوجه السياسي، فرجل الأعمال له الحق أن يمارس السياسة من خلال تقديم الدعم المالي لمن يشاطره التوجه السياسي، وللمثقف والكاتب والشاعر الحق في تقديم الدعم من خلال قلمه وفكره لمن يشاطرهم التوجه السياسي..وهكذا.
ثانيها : من الغريب حقا أن نقبل بأن يتبرع رجل الأعمال محمد ولد نويكظ أو غيره بعشرات الملايين للحزب الحاكم، وأن نستنكر تبرع رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو بنصف مليون للمنتدى. كان الأولى أن نستغرب التبرع الأول، فهو أهم من حيث المبلغ، وهو ممنوح لحزب يمتلك موارد كثيرة ويفرض على كل كبار الموظفين الانخراط فيه، وهو بالإضافة إلى كل ذلك بإمكانه أن يقدم خدمات لرجل الأعمال المتبرع على حساب الشعب الموريتاني. أما التبرع الثاني فهو غير مهم من حيث المبلغ، وهو من ناحية ثانية مقدم لتشكيلات سياسية تعاني من الحصار بكل أشكاله وأنماطه، وهو من ناحية ثالثة ممنوح لجهة لا تتحكم في الصفقات، ولا تمتلك السلطة حتى تمنح خدمة عامة على حساب الدولة الموريتانية في مقابل تلك الإعانة. أقصى ما يمكن أن تفعله هذه التشكيلات هو أن تتخذ موقفا سياسيا لصالح المتبرع، ولم نسمع يوما بأن المنتدى نظم مسيرة للوقوف مع رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو عندما تعرض للمضايقات من طرف السلطة الحاكمة.
ثالثها: حسب ما تم تسريبه فإن دعم رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو للمنتدى لا يستحق أن يذكر، وتبقى لرجل الأعمال محمد ولد بوعماتو وجهة نظره الخاصة به، فهو أكثر إنفاقا على الفرق الفنية وعلى بعض الشعراء و الحقوقيين والصحفيين، وأكثر إيمانا بدور أولئك في العمل المعارض، وتلك وجهة نظر للرجل قد جعلته يقبض يده عندما يتعلق الأمر بالإنفاق على تكتل سياسي كبير كالمنتدى، وهو الشيء الذي أظهرته هذه التسريبات.
(4)
أظهرت هذه التسريبات بأن الرئيس الراحل أعل ولد محمد فال ورجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، والرئيس السابق لاتحاد أرباب العمل أحمد باب ولد أعزيزي، والسيناتور محمد غدة، بأنهم من أشد الناس معارضة لنظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز. ومن المعروف بأن هؤلاء ينتمون إلى نفس الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه الرئيس، وهذه حالة لم تحدث من قبل هذا النظام، وفي ذلك دلالة إيجابية تجدر الإشارة إليها. لقد كنا وإلى وقت قريب نسمع البعض يشكك في معارضة هؤلاء، نسمع ذلك حتى ممن اشتعل رأسه شيبا في المعارضة.
اليوم، ومن بعد هذه التسريبات، فإنه لم يعد بإمكان أي كان أن يزايد في معارضة هؤلاء، ولا أن يأتي بعمل معارض أكثر ثقلا وأكثر أهمية من العمل المعارض الذي قدمه السيناتور محمد ولد غدة خلال السنوات الأخيرة.
حفظ الله موريتانيا..