دائمًا ما ينشغل الكثيرون بالمقارنة العربية العالمية، في الكثير من الجوانب الاقتصادية من حيث الدخول والرفاهية وغيرها، ومن ضمن هذه المقارنات وأهمها هي أسعار الغذاء إذ إن مؤشر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» لأسعار الغذاء أخذ بالتراجع منذ أبريل (نيسان) 2014، ومع تدني أسعار النفط الخام استمر هذا التراجع خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن هذا التراجع لا يجد له صدى في الدول العربية، إذ تواصل الأسعار ارتفاعها متجاهلة الانخفاض العالمي، فما هو السبب؟
في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري قالت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة فاو إن الأسعار العالمية للغذاء تراجعت خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ سجل مؤشر أسعار الغذاء للمنظمة 176.4 نقطة في المتوسط أي بانخفاض 2.2 نقطة (1.3%) عن مستواه المسجّل في سبتمبر (أيلول)، وبالرغم من أن المؤشر على هذا المستوى أعلى بواقع أربع نقاط (2.5%) مما كان عليه في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، إلا أنه أقل بنسبة 27% عن مستواه الأعلى تاريخيًا الذي بلغ 240 نقطة في فبراير (شباط) 2011.
وباستثناء الحبوب، فإن كل المؤشرات الأخرى المستخدمة في حساب مؤشر أسعار الغذاء، قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول)، إذ بلغ مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الحبوب في المتوسط 152.8 نقطة، أي بارتفاع طفيف عما كان عليه في سبتمبر (أيلول) بواقع 10.5 نقاط (7.4%) مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، بينما جاءت أسعار منتجات الألبان في مقدمة السلع التي سجلت أكبر هبوط مع تراجعها بنسبة 4.2%.
لكن فاو قالت إنه من المرجح أن تتوازن أسواق الحبوب خلال 2017-2018 متوقعة أن يتجاوز الإنتاج العالمي المحصول القياسي المسجل العام الماضي، ليصل إلى 2.613 مليار طن، وعمومًا على الرغم من الحديث عن انخفاضات في معظم سلة السلع الغذائية، لا نجد صدى لهذه التراجعات، فأسعار الغذاء ليست أقل بنسبة 27% عما كانت عليه في 2011، بل على العكس فإن السعر الحالي أضعاف نظيره المسجل قبل ستة أعوام، وهذا يظهر من مؤشرات الدول العربية وفق بيانات فاو.
وعلى مستوى العام الماضي، فقد شهدت أسعار السلع الغذائية الأساسية انخفاضًا للعام الخامس على التوالي في 2016 بمعدل 161.6 نقطة عن العام بأكمله، وبانخفاض بنسبة 1.5% تقريبًا مقارنة بمستويات عام 2015، بينما سجل عام 2016 انخفاضًا مستمرًا في أسعار الحبوب حيث انخفضت بنسبة 9.6% مقارنةً بعام 2015 وبنسبة 39% عن ذروتها في عام 2011.
أسباب ارتفاع الأسعار عربيًّا على عكس العالم
في الواقع تواصل أسعار الغذاء والمواد الأساسية ارتفاعها المتواصل في عدة بلدان عربية، أبرزها مصر والسودان وسوريا واليمن وليبيا بالإضافة إلى الجزائر والمغرب وتونس، وبنظرة شاملة، يمكن القول إن الحكومات العربية هي المتحكم الرئيسي في أسعار السلع، وذلك من خلال ما تقدمه من دعم جزء كبير من أسعار تلك المواد، بالتالي فإن أي تغير عالمي في الأسعار لا يعود مباشرة إلى المواطن العربي، ولكن تستفيد منه حكومات هذه الدول، دون أن يشعر المواطن بأي تحسن يذكر.
وتحاول الحكومات العربية تقليل العجز في الموازنة من خلال فروق هذه الأسعار، فمع انخفاض فاتورة الاستيراد مع ثبات السعر النهائي الذي تقدمه الدولة للمستهلك تحاول أن تعالج بذلك جزءًا مهمًا من العجز المتفاقم في أغلب الدول العربية، وكان هذا الأمر واضحًا بشكل ملحوظ بالنسبة للدول العربية المستوردة للنفط مثل مصر والأردن، إذ استطاعت هذه الدول توفير مبالغ ضخمة للموازنة بسبب تراجع أسعار النفط، في حين أن هذا الانخفاض لم يشعر به المواطن.
إذًا لا يرتبط الأمر عربيًا بالقوانين الاقتصادية التي تحدد الأسعار كقانون العرض والطلب، ولكن بعيدًا عن هذا السبب هناك عدة أسباب أخرى ترفع من حدة الأزمة وتوسع الفجوة بين الأسعار العالمية والعربية، وأهم هذه الأسباب:
الدولار القوي وفروق سعر الصرف
بما أن الدول العربية تعتمد على الاستيراد بشكل أساسي، يعود جزء كبير من أزمة ارتفاع أسعار الغذاء في الوطن العربي إلى تسعير هذه السلع، بـالدولار الأمريكي، وذلك في الوقت الذي تستمر فيه العملة الأمريكية في الارتفاع، تتراجع قيمة العملات المحلية بسبب المشاكل الهيكلية في اقتصادات المنطقة، فيما تراجع كل من عملة مصر والسودان واليمن وسوريا والجزائر والمغرب وتونس خلال العام الماضي بنسب متفاوتة، إذ كان الجنيه المصريأكثر عملة تراجعت في 2016، وبذلك في حال فرضنا ثبات الأسعار العالمية فإنها سترتفع عربيًا، وذلك بسبب تراجع قيم العملات العربية.
نسب التضخم المرتفعة
على الجانب الآخر باتت المنطقة العربية من أكثر المناطق في العالم التي بها معدلات تضخم، ففي أغسطس (آب) الماضي،سجل التضخم في مدن مصر أعلى مستوياته منذ يونيو (حزيران) 1986 عندما بلغ 35.1%، إذ قفز إلى 33% في يوليو (تموز) من 29.8% في يونيو (حزيران)، ولا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لدولة مثل السودان، إذ بلغ معدل التضخم السنوي في البلاد 30.47% في ديسمبر (كانون الأول) 2016، وتفاوتت معدلات التضخم في باقي الدول العربية، إذ وصل في الجزائر إلى 7%، و4.8% في الأردن.
يشار إلى أن هذه النسب خاصة بالبيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة والتي يرى محللون أنها ليست دقيقة بشكلٍ كاف، فعلى سبيل المثل لم يصل التضخم في تونس إلى 6% إذ سجل نحو 5.8% في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بينما تظهر قائمة أعدها المرصد التونسي للاقتصاد، أن ارتفاع نسب التضخم في تونس وصلت إلى أكثر من 60% خلال سبع سنوات، وهو ما يكشف عن عمق المشكلة، وبالتالي في حال تراجعت الأسعار العالمية لن يشعر المواطن العربي بهذا الهبوط وسط هذه المعدلات.
ثبات الأجور
بعيدًا عن الدول العربية النفطية، فإن باقي الدول العربية تعيش حالة من تدني الأجور بشكل كبير، ولا ترفع الحكومة هذه الأجور لتتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم، فبحسب مؤشر «Numbeo» لمتوسط الراتب الشهري في العالم لسنة 2017، متوسط الرواتب في سوريا يناهز 99 دولارًا فقط، فالحرب الدائرة في فيها منذ أكثر من خمس سنوات مزقت النسيج الاقتصادي للبلاد، بينما لا يتجاوز متوسط الدخل الشهري في مصر الــ164 دولارًا، أي أن المواطن الروندي الذي يجني في المتوسط 265 دولارا شهريًا في وضع أفضل بكثير من نظيره المصري.
وتأتي مصر في ذيل القائمة العربية والأفريقية، فمتوسط الرواتب في ناميبيا وزيمبابوي وكينيا وأثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وموريشيوس أفضل من مصر بأضعاف، بينما يسبق مصر كل من تونس والجزائر، إلا أن القدرة الشرائية في الجزائر وصلت إلى36.66% على الرغم من أنها من أكبر مُصدري النفط والغاز في العالم، وعمومًا تقع معظم الدول العربية في ذيل القائمة، وهو ما يجعل المواطن العربي أكثر عرضة لصدمات ارتفاع الأسعار.
غياب الرقابة
يغيب بشكل شبه كامل في بعض الدول العربية دور الحكومات من حيث مراقبة أسواق السلع الغذائية، إذ تركت ذلك للتجار الذين لا يضعون في الغالب مصلحة المستهلك والمواطن بعين الاعتبار، بينما يرى الباحث والكاتب الاقتصادي، عبد الحافظ الصاوي، «إن الأصل في الغذاء أن يتوافر محليّا في البلدان العربية، وإن لم يكن محليًّا فعلى الأقل إقليميًا في الوطن العربي غير أن المنطقة العربية فشلت في تحقيق ذلك، وهو ما دفع دول المنطقة لاستيراده ليمر بسلسلة طويلة من الجمارك والتجار والسماسرة والوسطاء الذين يضيفون بدورهم هامشًا للربح ليصل إلى المستهلك بأكثر من سعر التكلفة بكثير»، وهو ما يساهم كذلك في زيادة الأسعار.
وبشكل عام، يعاني العالم العربي من فجوة غذائية كبيرة بين إنتاج الغذاء والطلب عليه، حيث يستورد نحو 55% من احتياجاته من المواد الغذائية، وقدر العجز الغذائي في العام 2012 بحوالي 35 مليار دولار، فيما يشكل الأمن الغذائي في السودان الأقل على مستوى الوطن العربي حيث تجاوزت النسبة 50% في البلاد، كما يوجد أسباب أخرى تساهم كذلك في هذه الفجوة بين الأسعار العالمية والعربية، وذلك مثل تدني الدعم الزراعي الذي تقدمه الدول العربية للقطاع الزراعي، وكذلك غياب بورصات السلع التي تساهم في ضبط الأسعار.