لا تزال قصة الهجرة غير الشرعية حديث وسائل الإعلام؛ بسبب مستجدات الأوضاع المتعلقة باستمرار محاولة هؤلاء المهاجرين عبور الحدود والبحار للوصول إلى ما يعتقدونه فرصة أفضل للعيش. أحدث هذه الفصول كان ذلك المشهد المتعلق بغرق مجموعة من المهاجرين في القنال الإنجليزي الفاصل بين فرنسا وبريطانيا، وقبله بأيام، ظهر ذلك المشهد المتعلق بتواجد آلاف المهاجرين عند الحدود البولندية البيلاروسية، وما صاحبه من اشتباكات بين المهاجرين والشرطة البولندية التي منعتهم من دخول البلاد.
وبغض النظر عن تناول وسائل الإعلام وتغطيتها لمثل هذه الأحداث بشكل قوي، وظهور كثير من صور اللاجئين ونقل معاناتهم، يبدو أن الاهتمام العالمي على الصعيدين الشعبي والرسمي لم يعد يبدي كثيرًا من التعاطف مع هؤلاء البشر، ولا يحاول حمايتهم وتقنين أوضاعهم كما ينبغي. فيبدو من التصريحات الرسمية دائمًا أن الأمر لا يتعلق سوى بحماية الحدود، وتحميل قادة الدول مسؤولية ما يحدث بوصفه بعدًا سياسيًّا.
حسنًا، لنرجع قليلًا للوراء. فعندما بدأت أزمة اللاجئين السوريين بعد أحداث عام 2011، بدأ الآلاف منهم في عبور البحر الأبيض المتوسط على نطاق واسع في محاولة للذهاب إلى أوروبا. وعلى نفس النمط، غطت وسائل الإعلام هذه الأخبار وسجلت صورًا وفيديوهات للاجئين، لكن ردود الفعل العامة والرسمية كانت فاترة إلى حد ما.
لكن في عام 2015، تغير كل شيء بسبب صورة واحدة فقط. فعندما نشرت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم صورة الطفل السوري الغارق آلان كردي على أحد الشواطئ التركية، ظهرت ردود فعل دولية قوية، إلى حد قيام الاتحاد الأوروبي بتغيير سياسته بشأن اللاجئين، كذلك زادت التبرعات للجمعيات الخيرية التي تعمل على تحسين أوضاع اللاجئين.
فلماذا هذا التفاعل القوي مع صورة ضحية واحدة، بينما صور عشرات اللاجئين ومعاناتهم لا تؤثر كما ينبغي في العالم؟
كلمة السر: «أثر الضحية المحدد»
توصف هذه الظاهرة في علم النفس الاجتماعي بـ«أثر الضحية المحدد»، إذ يتفاعل الناس بشكل مختلف مع الكلمات والصور المتعلقة بمعاناة فرد واحد، مقارنةً بمعاناة مجموعات كبيرة. بكلمات أخرى، نحن على استعداد لتقديم مساعدة أكبر لضحية واحدة تعاني من ضائقة مقارنة بمجموعة من الأشخاص الذين لديهم الضائقة نفسها.
يشير تأثير الضحية المحدد إلى ميل الناس إلى تقديم مساعدة أكبر لفرد يمكن التعرف عليه بدلاً من مجموعة أكبر أو غير محددة أو مجموعة إحصائية من الأشخاص. فنظرًا لأن قصة الفرد تكون أكثر تفاعلًا من الناحية العاطفية من مجرد مجموعة إحصائيات عن مجموعة من البشر، فمن المرجح أن تحفز الناس على اتخاذ إجراء. لقد عرف المسوقون غير الربحيون هذا منذ فترة طويلة، ونسجوا ببراعة القصص الفردية في مجهوداتهم لزيادة الدعم لقضاياهم.
تشكل الصور المنقولة في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية تصوراتنا عن العالم، ولديها القدرة على أن تصبح قوى سياسية تملك تأثيرًا واضحًا في آرائنا وأفعالنا في ذاتها. فصور هؤلاء اللاجئين الذين يحاولون عبور البحر المتوسط أو القنال الإنجليزي أو الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا، تؤثر في كيفية رؤية الناس لقضايا الهجرة وكيفية الاستجابة لها.
المشكلة هنا أنه في وسائل الإعلام الرئيسية، فإن صور الضحايا الذين يمكن التعرف عليهم وتحديد هوياتهم وذكرها بوضوح هي الاستثناء وليس القاعدة. نلاحظ أن وسائل الإعلام عندما تتناول أزمات اللاجئين تتحدث عنهم على أنهم جماهير مجهولة الهوية، فيؤدي هذا إما إلى جعل الجمهور والمشاهدين يشعرون بنوع من الخدر أو الراحة تجاه مشقة هؤلاء الأشخاص، مما يجعلهم لا يهتمون كثيرًا بمعاناة هؤلاء كما ينبغي، أو يؤدي ببساطة إلى فشل وسائل الإعلام تلك في تغيير مواقف المشاهدين أو سلوكياتهم تجاه قضايا تبدو قضايا إنسانية.
نزع الصفة الإنسانية عن الجماعات المنكوبة!
أحدث الدراسات في هذا السياق أجرت تجربة مهمة تضمنت عرض صور مأخوذة من تغطية وسائل الإعلام للاجئين على ما يقرب من 4 آلاف مواطن من الدول الأوروبية. كانت الصور منقسمة إلى جزئين، الأول يشمل صورًا تتضمن مجموعات كبيرة لا يمكن التعرف على الأفراد فيها، والثانية صورًا لمجموعات صغيرة من اللاجئين الذين يمكن التعرف عليهم وتمييزهم بوضوح.
بعد ذلك، طلب من المشاركين إخبار الباحثين إلى أي مدى يعتقدون أن اللاجئين قادرون على اختبار مشاعر معينة. هذا الأمر يمكن من خلاله قياس عملية نزع الصفة الإنسانية، لأن أحد الأبعاد المهمة لنزع الإنسانية عن الآخرين هو اعتبار الآخرين أقل قدرة على تجربة المشاعر التي تميز الإنسان عن الحيوانات، مثل الحنان والشعور بالذنب والرحمة.
وجدت الدراسات أن المشاركين الذين شاهدوا صورًا للاجئين في مجموعات كبيرة نسبوا لهم مشاعر أقل، ما يعني أن المشاركين نزعوا الصفات الإنسانية عن اللاجئين بقوة أكبر، عندما عرضت عليهم صور تشمل مجموعات لاجئين كبيرة. هذه النتيجة نفسها حصل عليها الباحثون عندما شاهد المشاركون صورًا لمجموعات كبيرة من الناجين من الكوارث الطبيعية.
قضية أمنية وليست إنسانية
عند النظر إلى الصور المتعلقة بأزمة اللاجئين، فغالبًا ما تتعلق بأمرين، إما تصوير عبور اللاجئين للمسطحات المائية مثل البحر المتوسط والقنال الإنجليزي، وإما عبورهم الحدود البرية مثل الحدود البولندية. تكهن علماء الاجتماع بأن التصوير المرئي واللغوي للاجئين باستخدام استعارات متعلقة بالمياه (مثل الأمواج والمد والجزر والفيضانات) يعزز الصورة النمطية للاجئين، باعتبارهم عوامل مهددة لا يمكن السيطرة عليها.
هذا يعني أن السرد اللغوي المصاحب لصور مجموعات كبيرة من اللاجئين في البحر يؤدي إلى قدر أكبر من عملية تجريد اللاجئين من إنسانيتهم في أعين المشاهدين. فالعبارات والصور المستخدمة بشكلها الحالي في وسائل الإعلام تؤكد أن قضية اللاجئين قضية أمنية بدلاً من كونها قضية إنسانية. فهذه النوعية من التغطية (سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة) تصور اللاجئين على أنهم أزمة بالنسبة للدول المضيفة، بدلاً من تصورهم بشرًا واقعين في أزمة.
الإعلام والتأثير في سلوك المشاهد
ما ذكرناه سابقًا من تأثير الصور والسرد اللغوي المصاحب لها في وسائل الإعلام لا يؤثر فقط في مواقف الناس تجاه اللاجئين، بل يؤثر أيضًا في سلوكياتهم وأفعالهم، أي أن له بعدًا سياسيًا مرتبطًا بالرأي العام تجاه قضية اللاجئين. فالمشاهدون الذين يشاهدون صور مجموعات اللاجئين الكبيرة يكونون أكثر عرضة لتأييد العرائض والقوانين المناهضة للاجئين، وأقل احتمالًا لتأييد أي قوانين والتماسات مؤيدة للاجئين. ليس هذا فحسب، بل إن التعرض لهذه الصور يؤثر في دعم الناس للقادة السياسيين، ويجعل الناس أكثر عرضة لزيادة الدعم لقادة سياسيين أكثر هيمنة.
في النهاية، لا توجد طرق محايدة لتصوير البشر بصريًا للأسف. إذ لا يمكن لوسيلة التصوير الفوتوغرافي نفسها تحمل مثل هذا الحياد، وهو ما ينطبق أيضًا على المصورين والناشرين كما ينطبق ويتأثر به المشاهدين أنفسهم. غالبًا، ما يتخذ قرار نشر الصور من قبل المحررين الذين يتعرضون يوميًا للعديد من صور المعاناة الإنسانية.
هذه القرارات يجب أن تأخذ في الاعتبار المشاعر المحتملة التي يراها الجمهور في الصور، وكذلك المشاعر التي سيشعرون بها، لذلك، يجب على وسائل الإعلام التركيز على قصص هؤلاء اللاجئين بشكل فردي، وليس جماعي. هذا هو ما يجب على كل وسيلة إعلام الانتباه له حتى لا تسبب تغطيتها لقضية إنسانية عادلة أثرًا عكسيًا غير مرغوب فيه.
ساسة بوست