ماذا تعرف عن حكام العالم العربي المتصوفة؟

0
331

بعد أن اكتسح الإسلاميون الانتخابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر والمغرب، ومع بروز تيّارات إسلامية عنيفة في سوريا والعراق وبتبني تنظيمات دينية لتفجيرات في قلب أوروبا وأمريكا، بدأ نقاشٌ قويّ عن ضرورة «إصلاح الدين» أو البحث عن بديل ديني معتدل يتجنّب السياسة ويتحالف مع الأنظمة الحاكمة كما يلقى قبولًا وانتشارًا في الأوساط الشعبية.

وكانت الإجابة عند الطرق الصوفية التي عوّلت عليها بعض الأنظمة من أجل السيطرة على الساحة الدينية وإنتاج خطاب ديني بديل للخطاب السائد الذي تسيطر عليه الحركات الإسلامية التقليدية من إخوان مسلمين وسلفيين.

ويبرز المذهب الصوفي مرشّحًا قويًّا في قلب النقاش حول تجديد الخطاب الديني وفي ظلّ بحث الأنظمة الغربية والعربية عن نموذج إسلامي «معتدل» لدعمه في مواجهة تيارات الإسلام السياسي السلمية أو العنيفة سواءً بسواء.

تنتشر الطرق الصوفية في العالم العربي بشكلٍ واسع، ولها مريدون وأتباع بالملايين، وقد يصل هؤلاء الأتباع إلى أعلى مناصب السلطة، كما قد تستغلّ السلطة شيوخ الطرق ومريديهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية. في هذا التقرير نرصد ثلاثة نماذج لرؤساء يُعرفون بميولهم الصوفية ونوثّق كيفية استغلالهم للوجود الصوفي في بلادهم من أجل خدمة مشروعهم السياسي.

اقرأ أيضًا: «الجهاد» والصوفية: ما لا تعرفه عن أهل التصوُّف

«سيدي بوتفليقة».. بركته تجلب الأمطار وترفع أسعار النفط وتؤهّل إلى كأس العالم

«إن الأمطار، والموسم الفلاحي العظيم هي بفضل بركة هذا الرجل المبارك» بهذه الكلمات صرّح الوزير الأول السابق عبد المالك سلال في أحد مؤتمرات الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة في 2014. كما أن وزير التعليم السابق «بابا أحمد» كان قد أدلى بتصريح مشابه في مؤتمرٍ آخر، حيث قال «إن ارتفاع أسعار البترول هو من بركات الرئيس بوتفليقة».

تتجلى صورة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في المخيال الشعبي لمؤيديه كوليّ صالح من أولياء الله أو «درويش» مُجاب الدعوة في التراث الصوفي، فهو لا يظهر للعموم إلا لتدشين مشروعٍ كبير يدرّ الخير على الناس أو لتكريم متفوقين أو للصلاة في الجمعة والعيدين.

وقد رسّخ بوتفليقة نفسه هذه الصورة للعموم من خلال استراتيجيته منذ وصوله إلى السلطة في 1999 بالترفع عن المهاترات السياسية أو الردّ على خصومه المعارضين، وترك ذلك للوزراء وأعضاء أحزاب الموالاة، وبالتالي لم ينجرّ إلى معارك سياسية يتبادل فيها الاتهامات أو يضطر إلى تبرير قراراته، حتى إنه لم يلق طوال فترة حكمه كلمة واحدة في البرلمان، فشكّل بذلك صورة ناصعة خالية من مظاهر الجدل التي تصاحب العمل السياسي في أذهان العامة.

كما أن تدخلاته «الشعبوية» المفاجئة التي تصب عكس توجّه الحكومة أحيانًا جعلت منه «قاضيًا عدلًا» يقتصّ للمواطن من الحكومة حين يختصمان. ولعلّ آخر حادثة تدخّل فيها بوتفليقة لإجراء دورة استدراكية ثانية لطلبة البكالوريا «الثانوية العامة» المتأخرين، عكس سياسة وزيرة التربية في إقصاء من يصل متأخرًا إلى مراكز الامتحان خير دليل على هذا المنحى.

وقد رافق العهدات الثلاث الأولى للرئيس بوتفليقة ارتفاع كبير في أسعار النفط إلى جانب هطول أمطار معتبرة وغياب لشبح الجفاف الذي يهدد مئات آلاف الفلاحين الجزائريين، مما رسّخ في أذهان الكثيرين صورة الزعيم الأسطوري الذي يجلب «الحظّ السعيد» أينما ارتحل.

ويُعرف الغرب الجزائري – المنطقة التي ينحدر منها الرئيس – بانتشار الطرق الصوفية فيه وكثرة مريديها، كما أن بعض الشواهد تشير إلى أن الرئيس نفسه كان أحد مرتادي «الزاوية الهبرية» في صغره.

ويولي نظام بوتفليقة الزوايا الصوفية اهتمامًا بالغًا من خلال العمل على كسب شيوخها ومريديها، من أجل تشجيعها لتكون بديلًا حكوميًا عن الحركات الإسلامية السياسية المنافسة، المتمثلة في كلٍ من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ المُحلّة، وحركة الإخوان المسلمين المتمثلة في حركة مجتمع السلم والأحزاب المنشقة عنها، فقد اعتمد بعد وصوله إلى السلطة على «بوعبد الله غلام الله» وهو  شخصية صوفية مقرّبة من شيوخ الزوايا والطرق ليكون على رأس وزارة الشؤون الدينية والأوقاف.

اقرأ أيضًا: يعلّمون القرآن أم يحشدون للسلطة.. قصّة التحالف بين النظام والصوفية في الجزائر

كما يبرز هذا الاهتمام من خلال قرار بوتفليقة تعيين مستشار رئاسي «مكلّف بالزوايا» ليختفي بعد تورّطه في قضية مالية. وقد مثلت الزوايا الصوفية في الجزائر ملجأ للسياسيين من أجل التطهر من «نجس» السياسة وألاعيبها القذرة، حيث يحجّ إليها السياسيون للحصول على بركة الولي الصالح أو شيخ الزاوية، فينالون بذلك الراحة النفسية والاطمئنان القلبي ويعيدون «شحن رصيدهم» الروحي بعد أن تلوث بالخدع والفضائح التي تعجّ بها السياسة.

وهذا ما جعل وزير النفط السابق «شكيب خليل» – المقرب من بوتفليقة – المتورّط في فضائح مالية كبيرة يهرع إلى زوايا البلاد من شرقها إلى غربها طلبًا لبركة شيوخها حتى يتطهّر روحيًّا مما علق به من الفضائح المالية – يدعي أنها مفبركة – التي التصقت به سابقًا، كما يعيد بذلك تسويق نفسه في الأوساط الصوفية التي تتحكم بمفاصل قطاع كبير من المجتمع في مناطق كثيرة بفضل مريديها الذين يعدّون بالملايين.

قبل وصول بوتفليقة إلى السلطة كانت الزوايا مغضوبًا عليها بالنسبة للنظام، لكنّ بوتفليقة الذي يمتلك علاقات قديمة مع الزوايا غيّر ذلك فور مجيئه وأدرك حجم المساحة التي تشغلها في الأوساط الشعبية، فاعتكف في زاوية من زوايا مدينة أدرار الجنوبية قبل اعتلائه عرش الرئاسة، ثم قرّب إليه شيوخها ودعمهم ماليًا ومعنويًا بزيارة أضرحتهم والتبرّك بهم.

كما استطاع بوتفليقة شراء ولاءات الزوايا التي تمتلك تاريخًا حافلًا من الجهاد والمقاومة العسكرية ضد المستعمر الفرنسي ليجعل منها وسيلة لحشد الأصوات والتأييد للسلطة السياسية وبديلًا مرضيًّا عليه للحركات الإسلامية التي تزاحم السلطة.

ولعل أبرز ما يُظهر الميولات الصوفية للرئيس، أمره في نهايات سنوات حكمه ببناء مسجد يعدّ الأكبر في أفريقيا وذي أطول مئذنة في العالم «مسجد الجزائر الأعظم» حتى يكون هذا البناء حسن خاتمة لمسيرته في الحكم ويخلّد اسمه في التاريخ كما يخلّد شيوخ الصوفية أسماءهم ببناء الزوايا والقِباب.

ونختم هنا بعبارة أخرى من المؤتمر الانتخابي الذي ذكرناه في السطور الأولى، حيث أضاف الوزير الأوّل سلال «لو لم يكن هذا  الرجل مُباركًا» ويشير إلى صورة الرئيس بوتفليقة الذي يعجز عن لقاء أنصاره بسبب مرضه «لما تأهلت الجزائر في عهده مرتين إلى نهائيات كأس العالم؟».

السيسي.. المدد يأتيه في المنام

أنا من الناس الذين لهم تاريخ طويل من الرؤى – عبد الفتاح السيسي.

في التسريبات التي نشرتها قنوات مصرية معارضة للرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي سنة 2013 يظهر باعتباره شخصًا يولي ما يراه النائم في المنام اهتمامًا بالغًا، فقد زعم أنه رأى الرئيس المصري السابق أنور السادات وهو يبشره بأنه سيصير رئيس جمهورية، كما رأى في المنام أنه يحمل سيفًا مكتوبًا عليه «لا إله إلا الله» باللون الأحمر، لون سيرافقه كثيرًا في سنوات حكمه التي تلت المنام، تدلّ هذه العبارات على مكانة «الأسطورة» في شخصية السيسي، وبالتالي فهو يستند في اتخاذ قراراته ليس إلى المنطق والمصلحة المادية كما يراها فقط، بل أيضًا إلى الرؤى.

اقرأ أيضًا: 9تسريبات خطيرة  للسيسي ورجاله في عام

أنا متصوّر أن السماء ابتدى يصعب عليها المصريين – عبد الفتاح السيسي.

ولد عبد الفتاح السيسي في منطقة الجمالية بالقاهرة، وهي معروفة بإرثها الصوفي العتيق وموالدها الشهيرة كمولد الحسين في جامع الحسين، كبرَ السيسي وسط هذا الجوّ من الزيارات الموسمية للأضرحة المباركة وترعرع وهو يرى ويسمع – بوعي أو بدونه – خطب وأذكار وأوراد الطرق الصوفية وأناشيدها.

ولعل سياسته السلطوية في حُكم الفرد الواحد – كما يرى البعض – والتحكّم في كامل مقاليد السلطة دون إتاحة المجال لمقاومة أو معارضة ولو صورية، قد يكون مردّها إلى الجذور الصوفية في شخصيته، حيث يتعامل الرئيس مع مواطنيه من منطق المَثَل الموجود في التراث الصوفي «المريد بين يدي شيخه كالميت في يد غسّاله»، وقد يرى بعض المراقبين أن السيسي أخذ مصطلح «الميّت» في المثل السابق بجديّة مبالغ فيها.

تشير مصادر صحافية لموقع التحرير المصري، إلى أن السيسي انتمى في مرحلة ما إلى إحدى الطرق الصوفية، كما قالت صحيفة الوفد إن الطرق الصوفية والمنتمين إليها المقدرين بمئات الآلاف – وربما الملايين – قد دعموه في انتخابات الرئاسة سنة 2014 «لأنه أحد أبنائها». والتقى السيسي أثناء حملته الانتخابية في السنة ذاتها بقيادات الجماعات الصوفية المصرية وجلس معهم في لقاء أعلنوا فيه دعمهم الكامل لترشحه للرئاسة.

يستغل النظام المصري الطرق الصوفية ويدعم وجودها في الساحة الدينية من أجل الأخذ من الخزّان البشري للجماعات الإسلامية المنافسة كالإخوان والسلفيين، كما يوظفهم سياسيًا كلما اقتضت الحاجة بفضل الكتلة الانتخابية الكبيرة التي يشكلونها والتي تقدّر بالملايين كما حدث في مظاهرات 30 يونيو (حزيران) حيث لبّت الطرق الصوفية نداء الدولة العميقة وشاركت في مشهد إزاحة مرسي عن السلطة.

كما حضرت الطرق الصوفية في لجنة كتابة دستور 2014 من خلال مستشار شيخ الأزهر وأحد قادة العشيرة المحمدية الصوفية الدكتور «محمد مهنّا». وفور تولّيه مقاليد السلطة فعليًّا بعزل مرسي، بحث عن غطاء ديني شرعي لإسقاط نظام الإخوان وكانت الانطلاقة من مباركة شيخ الأزهر أحمد الطيّب بوقوفه مع التحرك العسكري في مشهد 3 يوليو (تمّوز)، كما وجد ضالّته في الشيوخ الأزهريين المتصوّفين وعلى رأسهم علي جمعة وأسامة الأزهري الذين انحازوا لمشروع السيسي وأكسبوه شرعية دينية في مواجهته مع الإخوان المسلمين من خلال تخريج شرعي لعزله الرئيس المنتخب باعتباره «حاكمًا متغلّبًا».

اقرأ أيضًا: الطيب والسيسي.. ماذا تعرف عن صراع الشيخ والرئيس؟

كما اعتمد السيسي على الدعاة الصوفيين المؤيدين له من أجل تقديم خطاب ديني للعامة حتى من خارج مصر، فقد لوحظ الحضور الكثيف للداعية الصوفي اليمني «الحبيب الجفري» لندوات تثقيفية بالقوات المسلحة وإلقاؤه كلمات على أعضائها، وتواجده خلال خطب  السيسي، كما قضى أسبوعًا مكثّفًا بين ثكناتها لنشر دعوته.

المغرب.. الزوايا تزاحم وزارة الخارجية

يعتبر الملك في المغرب رأس المؤسسة الدينية الرسمية باعتباره «أميرًا للمؤمنين»، المبايع بيعة شرعية من قبل رعاياه، وبفضل نسب الأسرة الملكية إلى الفيلاليين العلويين، يمتلك رمزية دينية بالغة في المجتمع المغربي، وقد جاء في مقدّمة الدستور المغربي لسنة 2011 إنّ «الملك «أمير المؤمنين» يتولّى حماية الملّة والدين، وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية»، كما أن الملك قد صرّح في أحد حواراته أنه «أمير للمؤمنين بجميع الأديان في المغرب».

وتعتبر الصوفية في المغرب أكثر من مجرّد تيّار ديني أو مزارات فلكلورية وثقافية يزورها السيّاح والبسطاء للتبرّك، فالمهام الموكلة إليها والاهتمام الذي تحظى به عند القصر الملكي قد يجعلها تتفوّق على مؤسسات الدولة من حيث الأهمية والدور المنوط بها.
اقرأ أيضًا: ماذا تعرف عن الطرق الصوفية في المغرب؟

وتلعب الزوايا في المغرب أدوارًا دينية وسياسية واجتماعية وحتى دبلوماسية. ويتمحور دور الزوايا السياسي في ضمان الولاء لـ«أمير المؤمنين»، اللقب الذي يحتكره الملك المغربي حسب الدستور كما ذكرنا.

أما الدور الديني فيتمثل في الحفاظ على هويّة المغرب الدينية الصوفية التقليدية في مواجهة التيارات الدينية الأخرى الوافدة التي قد تزعج السلطة وتهدد هذا النسيج الديني المتجانس. ودور الزوايا الاجتماعي يتمحور في رعاية الفقراء والمرضى وأصحاب الحاجات من خلال التبرعات التي تأتي من المحسنين أو من القصر الملكي، بالإضافة إلى الوجبات الغذائية المجانية والولائم التي تُقام على شرف الأولياء الصالحين الذين يعمِّرُون الزوايا.

كما تلعب الزوايا أدوارًا دبلوماسية متقدّمة قد تتفوق فيها على مؤسسات سيادية للدولة كوزارة الخارجية، وقد ذكرت صحيفة المساء المغربية كيف أن علاقة القصر الملكي الطيّبة مع الطرق الصوفية في كل من موريتانيا والسنغال كانت المفتاح الذي حلّت به أزمات دبلوماسية عميقة بين البلدين.

فبعد الأزمة الدبلوماسية الحادة بين المغرب والسنغال إثر اعتراف الحزب الاشتراكي السنغالي بجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال إقليم الصحراء الغربية، سارع المغرب في استدعاء سفيره في دكار، ولم تحلّ الأزمة إلا حين أرسل الملك المغربي شخصيات مغربية مقرّبة من القصر إلى رموز الطرق الصوفية وأغدق شيوخها بالهدايا والأعطيات المولوية.

ويستغل المغرب شبكة الزوايا الصوفية في أفريقيا من أجل نشر نسخته من التديّن الصوفي «المعتدل» الذي يخدم السلطة ويقف بالمرصاد لكل من السلفية الجهادية التي تهدد استقرار البلد، خصوصًا بعد تفجيرات 16 مايو (أيّار) 2003 في الدار البيضاء من جهة، بالإضافة إلى سحب البساط من الحركات الإسلامية التقليدية المنافسة على السلطة كالإخوان المسلمين «حزب العدالة والتنمية» والعدل والإحسان.

ويستقبل الملك المغربي شيوخ الزوايا الأفارقة بكل ترحاب وحسن ضيافة ويدخلهم مجالسه من أجل كسب ولاءاتهم واستغلال نفوذهم الديني حتى يكونوا مدخلًا للمغرب في نشر نسخته من التديّن والثقافة الصوفيين ومن جهة أخرى فتْح أبوابٍ جديدة للاقتصاد المغربي المتمدد خصوصًا في أفريقيا الغربية.

وبسبب نجاح التجربة المغربية في تأطير الحقل الديني والاستفادة منه، طلبت عدّة دول عربية وأفريقية الاستفادة من هذه التجربة، حيث أرسلت ليبيا وتونس أئمة ليتلقُّوا التعليم في المؤسسات والمدارس المغربية، كما وقّعت مالي مع المغرب اتفاقية تعاون في المجال الديني لتدريب 500 إمام، لتتبعهما كل من غينيا ونيجيريا، بالإضافة إلى تعاون في نفس المجال بين حكومات دول الغرب الأفريقي وطرقها الصوفية والقصر الملكي المغربي.

المصدر