بعد أن اكتسح الإسلاميون الانتخابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر والمغرب، ومع بروز تيّارات إسلامية عنيفة في سوريا والعراق وبتبني تنظيمات دينية لتفجيرات في قلب أوروبا وأمريكا، بدأ نقاشٌ قويّ عن ضرورة «إصلاح الدين» أو البحث عن بديل ديني معتدل يتجنّب السياسة ويتحالف مع الأنظمة الحاكمة كما يلقى قبولًا وانتشارًا في الأوساط الشعبية.
وكانت الإجابة عند الطرق الصوفية التي عوّلت عليها بعض الأنظمة من أجل السيطرة على الساحة الدينية وإنتاج خطاب ديني بديل للخطاب السائد الذي تسيطر عليه الحركات الإسلامية التقليدية من إخوان مسلمين وسلفيين.
ويبرز المذهب الصوفي مرشّحًا قويًّا في قلب النقاش حول تجديد الخطاب الديني وفي ظلّ بحث الأنظمة الغربية والعربية عن نموذج إسلامي «معتدل» لدعمه في مواجهة تيارات الإسلام السياسي السلمية أو العنيفة سواءً بسواء.
تنتشر الطرق الصوفية في العالم العربي بشكلٍ واسع، ولها مريدون وأتباع بالملايين، وقد يصل هؤلاء الأتباع إلى أعلى مناصب السلطة، كما قد تستغلّ السلطة شيوخ الطرق ومريديهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية. في هذا التقرير نرصد ثلاثة نماذج لرؤساء يُعرفون بميولهم الصوفية ونوثّق كيفية استغلالهم للوجود الصوفي في بلادهم من أجل خدمة مشروعهم السياسي.
اقرأ أيضًا: «الجهاد» والصوفية: ما لا تعرفه عن أهل التصوُّف
«سيدي بوتفليقة».. بركته تجلب الأمطار وترفع أسعار النفط وتؤهّل إلى كأس العالم
«إن الأمطار، والموسم الفلاحي العظيم هي بفضل بركة هذا الرجل المبارك» بهذه الكلمات صرّح الوزير الأول السابق عبد المالك سلال في أحد مؤتمرات الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة في 2014. كما أن وزير التعليم السابق «بابا أحمد» كان قد أدلى بتصريح مشابه في مؤتمرٍ آخر، حيث قال «إن ارتفاع أسعار البترول هو من بركات الرئيس بوتفليقة».
عبد العزيز بوتفليقة في زيارته لتامنغاست. المصدر: vitaminedz.org
تتجلى صورة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في المخيال الشعبي لمؤيديه كوليّ صالح من أولياء الله أو «درويش» مُجاب الدعوة في التراث الصوفي، فهو لا يظهر للعموم إلا لتدشين مشروعٍ كبير يدرّ الخير على الناس أو لتكريم متفوقين أو للصلاة في الجمعة والعيدين.
وقد رسّخ بوتفليقة نفسه هذه الصورة للعموم من خلال استراتيجيته منذ وصوله إلى السلطة في 1999 بالترفع عن المهاترات السياسية أو الردّ على خصومه المعارضين، وترك ذلك للوزراء وأعضاء أحزاب الموالاة، وبالتالي لم ينجرّ إلى معارك سياسية يتبادل فيها الاتهامات أو يضطر إلى تبرير قراراته، حتى إنه لم يلق طوال فترة حكمه كلمة واحدة في البرلمان، فشكّل بذلك صورة ناصعة خالية من مظاهر الجدل التي تصاحب العمل السياسي في أذهان العامة.
كما أن تدخلاته «الشعبوية» المفاجئة التي تصب عكس توجّه الحكومة أحيانًا جعلت منه «قاضيًا عدلًا» يقتصّ للمواطن من الحكومة حين يختصمان. ولعلّ آخر حادثة تدخّل فيها بوتفليقة لإجراء دورة استدراكية ثانية لطلبة البكالوريا «الثانوية العامة» المتأخرين، عكس سياسة وزيرة التربية في إقصاء من يصل متأخرًا إلى مراكز الامتحان خير دليل على هذا المنحى.
وقد رافق العهدات الثلاث الأولى للرئيس بوتفليقة ارتفاع كبير في أسعار النفط إلى جانب هطول أمطار معتبرة وغياب لشبح الجفاف الذي يهدد مئات آلاف الفلاحين الجزائريين، مما رسّخ في أذهان الكثيرين صورة الزعيم الأسطوري الذي يجلب «الحظّ السعيد» أينما ارتحل.
الرئيس بوتفليقة في زيارة لأحد الأضرحة. مصدر الصورة: http://toutsurtlemcen.info
ويُعرف الغرب الجزائري – المنطقة التي ينحدر منها الرئيس – بانتشار الطرق الصوفية فيه وكثرة مريديها، كما أن بعض الشواهد تشير إلى أن الرئيس نفسه كان أحد مرتادي «الزاوية الهبرية» في صغره.
ويولي نظام بوتفليقة الزوايا الصوفية اهتمامًا بالغًا من خلال العمل على كسب شيوخها ومريديها، من أجل تشجيعها لتكون بديلًا حكوميًا عن الحركات الإسلامية السياسية المنافسة، المتمثلة في كلٍ من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ المُحلّة، وحركة الإخوان المسلمين المتمثلة في حركة مجتمع السلم والأحزاب المنشقة عنها، فقد اعتمد بعد وصوله إلى السلطة على «بوعبد الله غلام الله» وهو شخصية صوفية مقرّبة من شيوخ الزوايا والطرق ليكون على رأس وزارة الشؤون الدينية والأوقاف.
اقرأ أيضًا: يعلّمون القرآن أم يحشدون للسلطة.. قصّة التحالف بين النظام والصوفية في الجزائر
كما يبرز هذا الاهتمام من خلال قرار بوتفليقة تعيين مستشار رئاسي «مكلّف بالزوايا» ليختفي بعد تورّطه في قضية مالية. وقد مثلت الزوايا الصوفية في الجزائر ملجأ للسياسيين من أجل التطهر من «نجس» السياسة وألاعيبها القذرة، حيث يحجّ إليها السياسيون للحصول على بركة الولي الصالح أو شيخ الزاوية، فينالون بذلك الراحة النفسية والاطمئنان القلبي ويعيدون «شحن رصيدهم» الروحي بعد أن تلوث بالخدع والفضائح التي تعجّ بها السياسة.
وهذا ما جعل وزير النفط السابق «شكيب خليل» – المقرب من بوتفليقة – المتورّط في فضائح مالية كبيرة يهرع إلى زوايا البلاد من شرقها إلى غربها طلبًا لبركة شيوخها حتى يتطهّر روحيًّا مما علق به من الفضائح المالية – يدعي أنها مفبركة – التي التصقت به سابقًا، كما يعيد بذلك تسويق نفسه في الأوساط الصوفية التي تتحكم بمفاصل قطاع كبير من المجتمع في مناطق كثيرة بفضل مريديها الذين يعدّون بالملايين.
شكيب خليل في زيارته لزاوية محمد العربي تيبركانين التابعة لولاية عين الدفلى. مصدر الصورة: http://aljazair24.com
قبل وصول بوتفليقة إلى السلطة كانت الزوايا مغضوبًا عليها بالنسبة للنظام، لكنّ بوتفليقة الذي يمتلك علاقات قديمة مع الزوايا غيّر ذلك فور مجيئه وأدرك حجم المساحة التي تشغلها في الأوساط الشعبية، فاعتكف في زاوية من زوايا مدينة أدرار الجنوبية قبل اعتلائه عرش الرئاسة، ثم قرّب إليه شيوخها ودعمهم ماليًا ومعنويًا بزيارة أضرحتهم والتبرّك بهم.
كما استطاع بوتفليقة شراء ولاءات الزوايا التي تمتلك تاريخًا حافلًا من الجهاد والمقاومة العسكرية ضد المستعمر الفرنسي ليجعل منها وسيلة لحشد الأصوات والتأييد للسلطة السياسية وبديلًا مرضيًّا عليه للحركات الإسلامية التي تزاحم السلطة.
ولعل أبرز ما يُظهر الميولات الصوفية للرئيس، أمره في نهايات سنوات حكمه ببناء مسجد يعدّ الأكبر في أفريقيا وذي أطول مئذنة في العالم «مسجد الجزائر الأعظم» حتى يكون هذا البناء حسن خاتمة لمسيرته في الحكم ويخلّد اسمه في التاريخ كما يخلّد شيوخ الصوفية أسماءهم ببناء الزوايا والقِباب.
ونختم هنا بعبارة أخرى من المؤتمر الانتخابي الذي ذكرناه في السطور الأولى، حيث أضاف الوزير الأوّل سلال «لو لم يكن هذا الرجل مُباركًا» ويشير إلى صورة الرئيس بوتفليقة الذي يعجز عن لقاء أنصاره بسبب مرضه «لما تأهلت الجزائر في عهده مرتين إلى نهائيات كأس العالم؟».
السيسي.. المدد يأتيه في المنام
أنا من الناس الذين لهم تاريخ طويل من الرؤى – عبد الفتاح السيسي.
في التسريبات التي نشرتها قنوات مصرية معارضة للرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي سنة 2013 يظهر باعتباره شخصًا يولي ما يراه النائم في المنام اهتمامًا بالغًا، فقد زعم أنه رأى الرئيس المصري السابق أنور السادات وهو يبشره بأنه سيصير رئيس جمهورية، كما رأى في المنام أنه يحمل سيفًا مكتوبًا عليه «لا إله إلا الله» باللون الأحمر، لون سيرافقه كثيرًا في سنوات حكمه التي تلت المنام، تدلّ هذه العبارات على مكانة «الأسطورة» في شخصية السيسي، وبالتالي فهو يستند في اتخاذ قراراته ليس إلى المنطق والمصلحة المادية كما يراها فقط، بل أيضًا إلى الرؤى.
اقرأ أيضًا: 9تسريبات خطيرة للسيسي ورجاله في عام
أنا متصوّر أن السماء ابتدى يصعب عليها المصريين – عبد الفتاح السيسي.