مقدمة قصيرة جدًّا عن الاقتصاد العالمي الحالي.. ماذا تحتاج الرأسمالية حتى تنجو؟

0
325

الرأسمالية لا تعرف سوى لون واحد: اللون الأخضر- لون الدولار- ، كل أمر آخر هو أمر ثانوي بلا  معنى، لا يهم عرقك أو جنسك أو عمرك أو توجهاتك *توماس سويل، عالم اقتصاد أمريكي.

أظهر استطلاع غالوب جديد صدر في أوائل مايو (أيار) 2016 رؤى مختلفة قليلًا عن أفكار الأمريكيين حول الاشتراكية، وعندما سأل غالوب الأمريكيين إذا كان لديهم «صورة إيجابية أو سلبية» تجاه الاشتراكية، كانت إجابة أولئك الذين لديهم صورة إيجابية حسب العمر: 55٪ بين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29، و37٪ بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 30-49، و27٪ بين الذين تتراوح أعمارهم من 50-64 و24٪ بين من هم 65 عامًا أو أكثر.

هناك فرق يزيد عن النصف عند جيل الألفية يعكس توجهًا إيجابيًا اتجاه الاشتراكية، لنلاحظ أن العمر قد يلعب دورًا كبيرًا في التأثير على الرأسمالية، فقد قضى جيل الألفية على وجه العموم حياتهم البالغة في عصر آمال وتوقعات تقلصت تجاه الرأسمالية، خصوصًا مع أخبار الاقتصاد السيئة التي عصفت بالبلاد ما بعد 2008 والانتكاس الاقتصادي الذي لحق بالبلاد منذ ذلك الحين.

فهل يتوق الشبان إلى تغيير في النظام الرأسمالي؟ ولماذا؟ وماذا على النظام الرأسمالي أن يغير حتى ينجو من الهلاك ويلاقي الترحيب من الجيل الجديد؟

هناك عدة مظاهر للرأسمالية بحاجة للتغيير وربما سيكون للعمل على إصلاحها أثر كبير في استعادة ثقة الشباب أهمها:

1- التدخل الخاطئ في السوق الحرة.

2-خصخصة التعليم ورسوم التعليم الجامعي.

3-اختفاء الطبقة المتوسطة في المجتمع.

4- الاستغناء عن العمالة واستبدالها بالتكنولوجيا.

 الحكومة ستشتري بالسعر الأعلى

بين عامي 1991 و2007 فقدت أمريكا ما يقارب ربع وظائف التصنيع بسبب انخفاض أجر العمل في الصين. الأعمال المكتبية أيضًا أصبحت صعبة جدًا وتقليص أعداد الموظفين أصبح على أشده، لذلك ليس من المستغرب لجيل الألفية أن يكون إيجابيًا تجاه الاشتراكية وهذا لا يعني أنهم ضد الرأسمالية بالكامل لكنهم ضد الرأسمالية المحسوبية crony capitalismالتي شوهت الرأسمالية وأدخلتها في كثير من الفساد، والرأسمالية المحسوبية تعني أن الاقتصاد نما ليس عندما قامت المشاريع والشركات بالتنافس الشريف والمجازفة ولكن كعائد مالي جُمع من علاقات اتصال بين الطبقة التجارية والطبقة السياسية.

الأشخاص الذين يملكون المال يبقون كذلك ويزيدون ثراءً لأن لديهم إمكانية للحصول على المؤهلات بمالهم ولديهم القدرة على التحكم بالاقتصاد بعلاقاتهم السياسية، فيستخدم رؤوس الشركات الضخمة صلاتهم السياسية وعلاقاتهم مع الحكومة لتمرير مصالحهم فوق مصالح منافسيهم ويدمرون الكثير من القوى العاملة والكفاءات بمنع الشركات الأكثر فعالية وفائدة من المرور والتوسع في السوق الحرة.

كيف يحدث ذلك؟ لنعط مثلا توضيحيًا: عند الشركتين (أ) و (ب) نفس المنتج ولنفترض مثلًا أنه السكر، الشركة (أ) تبيع كيلو السكر بـ20 جنيهًا والشركة ( ب) تبيعه بـ25، ممن سنشتري منطقيًا؟ من الشركة (أ) بالطبع، لكن الحكومة ستشتري من الشركة (ب)! لماذا؟ لأن الشركة (ب) لها علاقات أكبر بأناس من الحكومة، أو لأن الشركة (ب) تدفع مالًا لتمرر صفقاتها لأشخاص من الحكومة، وهذا يسمى بالرأسمالية المحسوبية التي تؤثر بشكل مباشر على المواطن، وهذا أمر غير عادل لأن الحكومة تصرف مال الشعب ولكن ليس لمصلحته. أمر آخر: ماذا عن الشركة (أ)؟

السوق الحرة.. حيتان كبيرة تأكل كل شيء

لو فكرنا في الشركة (أ) سابقًا، لو لم تجد من يشتري منها فإنها بالتأكيد ستخسر وسيبقى سوق بيع السكرمفتوحًا لتسيطر الشركة (ب) دون أي منافسة مضبوطة القواعد.

كثير من الشركات الصغيرة تم استبدالها بعدد أقل من الشركات الأكبر التي تكبر أكثر وتصبح شركات دولية متعددة الجنسيات (منتشرة في أغلب دول العالم) تهيمن على السوق العالمية، كيف؟ من الاعتماد المتبادل بين هذه الشركات وبلدانها الأصلية، فالدولة تعتمد عليهم للمحافظة على منافستها الاقتصادية على مستوى العالم والشركة تعتمد على الدولة في سن قوانين ضرائب وقواعد عمالية تحميها من المنافسين الأجانب وبذلك استعملت هذه الشركات تجارتها وسوقها باعتبارها وسيلة للضغط على الحكومة لتمرير القوانين التي في مصلحتها.

فعلى مستوى عالمي نستطيع أن نعدد عشر شركات فقط مسيطرة على تسويق الاحتياجات الأساسية (أغذية ومشروبات) للعالم  بشكل مخيف: كوكاكولا، وبيبسيكو، ويونيليفر، ودانون، ومارس، ومونديليز إنترناشونال، وكلوجز، وجنرال ميلز، ونستلة، وأسوشيتد بريتيش فوودز.

حسنًا إذًا، لماذا لا تتأثر هذا الشركات بتقلبات السوق والبورصة؟

اقرأ أيضًا: الرأسمالية تخلق عالمًا سيئًا غير عادل.. كيف برهنت قوانين الفيزياء على ذلك

الشركات الضخمة «أكبر من أن تفلس»

عملية تدخل الحكومات بشكل سلبي في السوق الحرة خلفت مشاكل أكبر، تخلق تقلبات في سوق البورصة وقد تعرض الشركات الضخمة متعددة الجنسيات للخطر، تحاول الرأسمالية تجاوزها من خلال خلق تدمير يسمى بالتدمير الإبداعيcreative destruction  وهي فكرة عالم الاقتصاد Joseph Schumpeter ومن خلالها تقوم الشركات الضخمة بالتخلص من أقسام من رأس المال القديمة التي لا تجني ربحًا كبيرًا بأن تسمح بشرائها بأسعار زهيدة أو بأن تلغي إنتاجها نهائيًا وتستثمر مالها في منتجات جديدة، وهنا تفتح المجال لنشوء حركة في الأموال وتفسح المكان لخلق أعمال جديدة ولدورة جديدة من حركات الازدهار والكساد.

(شرح جرافيتي لمفهوم التدمير الإبداعي)

لو أخذنا شركة نستلة على سبيل المثال، تنتج نستلة أكثر من ثمانية آلاف منتج، ولها 447 مصنعًا في 194 دولة، هل كانت كل منتجاتها هذه رابحة؟ وهل تم الترويج لها دفعة واحدة؟

بالتأكيد قامت نستله أكثر من مرة بعملية التدمير الإبداعي لتستمر في التوسع والنجاح، وهناك الكثير من المنتجات التيفشلت نستلة في الترويج لها فقامت بإلغائها أو بيعها  ثم خلقت أفكارًا جديدة لمنتجات جديدة كل مرة لتصبح بها التوسع. لنأخذ منتج Glowelle beauty drink مثالًا وهو عصير مدعم بالفيتامينات والمغذيات مخصصة مكوناته للعناية بالجلد والجمال أعلنت نستله عن توقفها عن إنتاجه دون أن توضح الأسباب، هل سيسبب هذا خسارة للشركة؟ بالطبع لا لأنها ستستغل الأموال المخصصة له لإبداع فكرة جديدة لمنتج جديد تنعش السوق ورأس المال وفي هذه الأثناء قد تبيع فكرة المنتج لشركة مبتدئة وقد تسرق فكرة شركة مبتدئة وتغير عليها قليلًا وتنتج منتجًا جديدًا يزيد من توسعها، كمثال على النتائج المؤكدة لذلك؛ سيطرتها على سوق الماء المعلبة بنسبة 70% وإضرارها بالكثير من الشركات المحلية الصغيرة

وهكذا تربح الشركات الضخمة وتصبح «أكبر من أن تفلس»، ويصبح إفلاسها يعني أن تسحب معها دول كاملة للفشل وتتفاقم الأزمة بشكل خطير.

لو أن السوق تركت للعمل بحرية تامة ربما كانت ستنجح وفي مصلحة المواطن لكن رأسمالية المحسوبية سمحت لدخول السياسة وشبكة العلاقات للتدخل في السوق فزاد ربح الشركات الضخمة على حساب المواطنين، والتدمير الإبداعي سمح بالتلاعب بالسوق ليجعل أمر انتهاء الشركات الضخمة مستحيلًا، مما جعل السوق الحرة ليست حرة بل سوق احتكارات وتلاعب وعلاقات مشبوهة.

ولكن، لو نظفنا السوق من هذه الأمور، هل السوق الحرة فكرة جيدة؟

اقرأ أيضًا: كيف استطاعت آيسلندا أن تهزم النِّظام العالمي؟!

اليد الخفية ليست في صالح السوق الحر دائمًا

آدم سميث Adam Smith طرح فكرة «اليد الخفية» في كتابه The Wealth Of Nations وهو يعتبر من الكتب الأساسية في الرأسمالية وتعني ببساطة: أن الأسواق غير الاعتيادية – يقصد الحرة – ستكتشف أسعارًا مناسبة للسلع من تلقاء نفسها دون تدخل القوانين بل حسب احتياجات المستهلكين ومقدار التنافس الشريف بين الشركات.

فلو افترضنا أن السوق الحرة لا تخضع لأية قوانين أو تدخلات وأمامها فقط خيار التنافس فسوف يقود هذا الأمر لخيارات أفضل وأوفر للمواطنين وكأن يدًا ما خفية تقود السوق. كيف يحدث هذا؟

على سبيل المثال، لو أراد (سامر) شراء حذاء جديد وأمامه عدة خيارات، سيقوده البحث إلى الشراء  من أكثر المحلات جودة وأقلها سعرًا، فلو خُير بين مكانين لبيع المنتج بنفس الجودة ولكن المكان (أ) يبيعه بشكل أرخص فسيترك سامر المحل الأغلى سعرًا (ب) ويشتري من المكان (أ) وكأن يدًا خفية تدله، حسنًا إذا ماذا سيتعين على الشركة (ب) أن تفعل؟ عليها إما أن تقلل السعر أو أن تعرض منتج بجودة أفضل، وكلما احتاج المستهلك منتجًا جيدًا سيوفره له السوق الحر بأفضل الأسعار وبأفضل جودة ممكنة.

(شرح جرافيتي لمصطلح اليد الخفية)

يقول المفكر اليساري الأمريكي الشهير نعوم  تشومسكي: «اليد الخفية سوف تدمر إمكانية وجود إنساني بشكل كريم، ما لم تتدخل الحكومة وتنظم الأسعار وتقننها وتعمل لتحسينها فإن اليد الخفية سوف تدمر المجتمع والبيئة والقيم والإنسانية بالعموم».

لماذا يعارض تشومسكي فكرة اليد الخفية في السوق الحرة؟

لأنه، وبحسب تشومسكي، علينا أن ننظر إلى الجهة المقابلة من السوق، فصحيح أن المواطن يبدو ظاهريًا هو المستفيد من اليد الخفية لكن كيف ستقلل الشركات من قيمة منتجاتها وتزيد من جودتها بحيث ترضي المستهلك وتحقق ربحًا في نفس الوقت؟ عندها ستتنافس الشركات على حساب العاملين لديها، ستقلل من رواتبهم وتزيد ساعات عملهم وتهضم الكثير من حقوقهم بشكل غير إنساني، ولو لم يصلح الأمر في البلاد ستنقل مصانعها لبلاد ذات أيدي عاملة رخيصة وتستغلهم بأبشع الطرق وأكثرها غير إنسانية في سبيل المنافسة والربح، مصنع شركة آبل في الصين على سبيل المثال.

ولا ننسى يدًا خفية أخرى تتلاعب بالقوانين كما تحدثنا عن المحسوبية الرأسمالية  فأغلب العاملين في إصدار القوانين والقرارات الحكومية لهم يد خفية في الأسواق الحرة تحركهم وتديرها حسب مصلحتها، وهي الشركات الضخمة التي  لها شبكة علاقات سياسية تعمل لصالحها، وهناك جبل من القوانين والروتينات التي يتم التعامل من خلالها بخفية لضمان مصلحة كبار رجال الأعمال وهناك لوبيات صغيرة من رجال الأعمال تعمل سويًا لديهم نفس التوجهات التجارية تتجمع سويًا لتمرير مصالحها عبر الحكومة، فيقومون بالتلاعب بأسعار الأسهم بطريقة غير قانونية.

بعد أزمة انهيار البورصة عام 2008 على سبيل المثال أغلقت خمسون شركة صغيرة وعمل مستقل بمعدل يومي بينما تأثرعدد قليل جدًا من الشركات الكبيرة، عدا عن الشركات التي اضطرت إلى  تقليص عدد من  موظفيها لتجاوز الأزمة، هناك 25 شركة كانت مسؤولة عن تسريح 700 ألف وظيفة  فيؤثر اللعب بالنظام الرأسمالي على مئات الآلاف الموظفين قد تكون الشركة طردتهم ولم تخبرهم بتفاصيل أزمتها المادية بل أخبرتهم  أنهم «ليسوا طموحين بما فيه الكفاية» وذلك بخلاف الشركات التي قلصت من الرواتب والحوافز لتستمر في العمل.

اقرأ أيضًا:«فورين أفيرز»: أزمة الرأسمالية.. هل هي النهاية؟

لا لرسوم التعليم

في أمريكا يتخرج الطالب العادي بقرض بمعدل 44 ألفًا إلى 60 ألفًا بفائدة سنوية بنسبة 6.1 والطلاب الفقراء أو أولئك الذين لا يستطيعون أن يجدوا أعمالا بأجور مناسبة بعد التخرج سيغرقون في الدين وتتكاثر المبالغ المطلوبة منهم كل عام، فالجامعة هنا أصبحت سلعة يستطيع تحمل تكلفتها النخبة، وتركت دورها باعتبارها مؤسسة تعاونية تفيد المجتمع بالتساوي وبأحكام عادلة حسب الكفاءة والقدرات.

ليس ذلك فقط، فالقروض والرسوم المدرسية تخلق ظلمًا اجتماعيًا كبيرًا؛ 16 % من الطلبات المقدمة للجامعات يتماسقاطها لعدم توافر القدرة المالية وهذا حرمان للأشخاص المؤهلين للحصول على التعليم العالي بسبب عدم قدرتهم المالية، غير أن القروض الجامعية تؤجج الأزمات المالية وتزيد الدين على الجامعات التي تنتظر الملايين من القروض من الطلاب لتتم إعادة دفعها لها لسداد ديونها بها، وأحيانًا تقوم الحكومات ببيع قروض الديون لشركات خاصة استثمارية، ثم تستغل الشركات هذه القروض وتتاجر بها فتضع قوانين قروض أكثر صرامة وترفع من نسب الفائدة على الطلبة كما حدث مع بريطانيا إذ قامت ببيع 4 بليون من قروض الطلاب لشركة خاصة أدت لارتفاع في الفوائد المفروضة على الرسوم المؤجلة والقروض.

كيف يبرر الرأسماليون رسوم التعليم؟

يبرر الرأسماليون الرسوم الجامعية بأن الإنسان يدفع للجامعة، لأنه وبعد تخرجه سيزيد تعلمه من قدرته المالية ويرفع رأس المال البشري human capital عنده وهذا يوفر له ميزة مادية تبرر دفعه للجامعة، ويوفر له عائدًا قويًّا على استثماره لماله في التعليم. هذا منطق يتعامل مع الإنسان باعتباره سلعة ويدني من هدف التعلم فهو ليس بالضرورة أن يكون ماديًا بل يساعدهم على فهم الحياة ويحفز خيالهم ويلهمهم للإبداع، والمجتمع الجيد يوفر هذه الأمور للجميع من أجل ازدهار لا استثمار لكسب المال؛ بحسب رأي العديد من المفكرين والفلاسفة.

أمر آخر أن مجانية التعليم في كثير من دول أوروبا الغربية مثل السويد، والدنمارك، وفنلند، وألمانيا خلقت بيئة تعليميةمزدهرة جعلتها من أفضل الأنظمة التعليمية عالميًا لأن جميع المؤسسات التعليمية متساوية في الكفاءات والميزانيات فتوفر تعليمًا متساويًا للجميع وهذا بالطبع خلف أثرًا كبيرًا على اقتصاد هذه الدول في مراحل لاحقة ومحى الشعور بالتمييز في التعليم حسب المال وجعله حسب الخبرة والقدرات.

خصصت الحكومات الرأسمالية كثيرًا من مؤسسات التعليم وأصبحت تتاجر بالشهادات التي يحصل عليها أبناء النخبة الغنية بمالهم لا بقدراتهم وذكائهم، وفرضت رسومًا تدفع بشكل نقدي أو على شكل قروض بفوائد تدفع بعد التخرج، فأصبحت مشكلة تكاليف التعليم مشكلة كبيرة في الأنظمة الرأسمالية ، تتفاوت فيها مستويات التعليم حسب القدرة المادية للفرد وتزيد من معاناة الطبقة المتوسطة التي تضطر لدفع نسبة كبيرة من دخلها لتكاليف التعليم.

الطبقة الوسطى في اضمحلال

لطالما ميز الأنظمة الرأسمالية وجود طبقة وسطى مرتاحة ماديًا ومزدهرة، لكن هذه الطبقة آخذة في التقلص وبالمقابل الطبقة العليا والطبقة الدنيا آخذة في الازدياد، كما أن التقلب في الحالات المادية وتفاوت الثروات في أعلى حالاته منذ 80 عامًا، وهناك نسبة 1% فقط تسيطر على نصف ثورة العالم.

نظام السوق الحرة الحالي سمح للأغنياء بتكديس الثروة أكثر وأكثر وزاد في ثرائهم الفاحش وبدأ تدريجيًا بإلغاء الطبقة الوسطى التي أصبحت تصارع ارتفاع الأسعار والبطالة وارتفاع الرسوم الدراسية وارتفاع الضرائب وتتناقص ميزانيتها بالتدريج لتنضم إلى الطبقة الفقيرة.

يقول روبرت ريتش، المحلل السياسي الأمريكي: «إن الشركات الضخمة والأفراد فاحشي الثراء قد سحبوا البطاقة الرابحة من التلاعب بالقوانين الملتوية وكانت لها اليد العليا في تشكيل قوانين السوق في العقود الثلاث الماضية، وفي نفس الوقت تلام نقابات العمال المطالبة بتحسين القوانين الحكومية لأنها لم تقف بشكل كافٍ أمام الشركات الضخمة التي تخنق المشاريع الصغيرة وتمتلك فيالق من المحامين والمحاسبين التي تشكل حاجزًا مهولًا ضد خلق توازن في تنظيم السوق، فتنشأ طبقة مسيطرة فاحشة الثراء».

في عام 2013  – بحسب ريتش- كان متوسط دخل الأسرة الأمريكية يساوي متوسط دخلها عام 1989 وفي العام الماضي 2016 أكثر من ثلثي الأمريكيين يعيشون من الراتب للراتب، أي أنهم لو لم يتسلموا راتب شهر واحد فلن يكونوا قادرين على توفير احتياجاتهم الأساسية لأنهم لا يملكون أية ادخارات ويعتمدون على راتبهم الشهري بشكل كامل.  وفي 1978 كانت قدرة المديرين التنفيذيين على شراء منازل تعادل ـ30 ضعفًا من الموظفين متوسطي الدخل لكن في الوقت الحالي أصبحت 296 ضعفًا، هذا يدل على كم الفرق في الدخول بين الموظفين وأرباب أعمالهم.

وبحسب الجدول التالي فإننا نرى مقدار الارتفاع في الدخل للطبقة المرتفعة مقابل الارتفاع الطفيف في دخل الطبقة المتوسطة منذ عام 1970 حتى 2014

«وفقًا لمركز أبحاث بيو فإن ثلثا الأمريكيين كانوا يؤمنون بأن بإمكانهم تحسين أوضاعهم بالعمل الجاد وبذل الجهد وهذه نسبة تقودنا للاكتئاب لا لرفع المعنويات، عندما نعرف أن هذه النسبة العظيمة يظنون أن عدم تحسن أوضاعهم المادية في هذا الوقت هي غلطتهم هم لا غلطة النظام الرأسمالي» روبرت ريتش

هذا كله يتعلق بتلاعب البشر برؤوس الأموال واحتكارها مما تسبب بظلم كبير باسم الرأسمالية، ماذا لو عرفنا أن هناك عنصرًا آخر يسبب المزيد من الظلم؟ عنصرًا يكلف الشركات أقل ويعمل أكثر؟ عنصرًا غير بشري؟!

اقرأ أيضًا: مترجَم: كيف قامت الرأسمالية الأمريكية على أكتاف العبيد؟

ثورة صناعية رابعة

العالم يمر حاليًا بالثورة الصناعية الرابعة «ثورة الروبوتات» ، مصطلح أطلقه Klaus Schwab ويقصد هنا الثورة في عالم الذكاء الاصطناعي وصنع الروبوتات، وتأتي بالترتيب الرابع بعد  ثورة الآلات والمواصلات في نهاية القرن 20 وثورة الإنتاج الضخم في نهاية القرن 19 وثورة الكمبيوتر في 1960.

الثورة الرابعة خلقت ما كان يسميه كارل ماركس بالتناقض الداخلي، إذ أن أرباب العمل يدفعون للعمال قيمة أقل مما يستحقون من أجل تحقيق ربح، وعند حساب هذا بشكل تراكمي فإن العمال لن يكونوا قادرين على شراء السلع التي ينتجونها في المقام الأول. فعمال شركة آبل على سبيل المثال بحاجة للعمل لمدة عامين ونصف لتوفير ثمن ساعة آبليصنعونها بشكل يومي! هذا غير احتمالية الاستعاضة عنهم مستقبلًا بروبوتات دقيقة تقوم بالتصنيع!

 الرأسمالية ستُهزم أمام ابنها البار «التكنولوجيا»

نحن نفكر في الرأسمالية وكأنها دومًا في صراع مغلق مع الاشتراكية وأن الاشتراكية تحاول الإطاحة بها، لكننا لم نتوقع يومًا أن الرأسمالية سوف تهزم أمام ابنها البار: التكنولوجيا Eric Weinstein

هناك 320 ألف روبوت بيعت في العامين الماضيين، 1.2 منها في مجال الزراعة و19.1 في التصنيع و79.7% في الخدمات.

قد نرى أن عدد الروبوتات المباعة قليل لا يؤثر على العمالة البشرية، لكن Eric Weinstein، الاقتصادي الأمريكي، يرى أنها من أكبر المخاطر التي تسحب الرأسمالية: «ما تقوم به التكنولوجيا في الوقت الحالي أنها تتصاعد في تقليد سلوكيات الإنسان الأكثر تعقيدًا بحيث تقوم بتفكيك كل الأنشطة البشرية المعقدة إلى سلوكات منفردة ثم تقوم بها بشكل دوري ومكرر، والواضح أن الخطر يكمن هنا في أن هذه التكنولوجيا بدأت بتقليد السلوكيات المعقدة أكثر وأكثر، فيما كان الاستغناء سابقًا فقط عن العمال الذين يقومون بالأعمال الروتينية، سيصبح الآن من السهل التخلي عن الذين يقومون بعمليات معقدة ومركبة في مستقبل الرأسمالية، وذلك سيقود لبطالة أكبر».

التعليم الإبداعي هو الحل الوحيد كي نخلق فرص عمل سرقتها التكنولوجيا

إن  الميزة التي ترفعنا درجة أعلى من التكنولوجيا بكل الحالات أننا قادرون على إبداع أفكار جديدة خصوصًا في الأسواق التي تعتمد على فرص العمر «one- off opportunity» وهذا يحافظ على تماسك الدعم المادي للبشر المبدعين الذين استطاعوا القيام بأمر لم يقم به أحد من قبل، وهنا يجب أن نخصص تدريب البشر بشكل أفضل في نظام التعليم، بحيث نعلمهم ليس على الإجراءات الروتينية التي يمكن استبدالهم بها بالتكنولوجيا بل بالابداعات والتجديد بالإتيان بأفكار لم يأت بها أحد من قبل.

ومع هذه الميزة يقول Eric Weinstein: «علينا أن نفهم كون البشر ليسوا مجرد أيد عاملة يتم استبدالها بآلات الرأسمالية بل أرواح لها كرامة ووجود ولها صحة بحاجة أن تؤخذ بعين الاعتبار، على الناس أن ينخرطوا بأعمال وأنشطة  اجتماعية أكثر، ليس تلك الأنشطة التي تكون قادرة على الحصول على حصة كافية من السوق للاستهلاك على مستوى مناسب، بل الأنشطة الاجتماعية التي تعمل على التكافل والدفاع عن كرامة وحاجة الإنسان».

طبقة مبدعة بيدها التغيير

لم تعد الوظائف الإدارية تعطى لأصحاب العقول النيرة البارعين والمفكرين الذين يلائمون مركزهم، بل أصبحت تُعطى عادة لأولئك الذين يتصاعدون هرميًا عبر الإدارة اللامركزية ويتملقون الإدارة التنفيذية بسحر أعمالهم، فتكون خلفياتهم العملية غالبًا ضعيفة غير مبتكرة فهم فاشلون تقنيًا رغم أنهم ناجحين إداريًا يقول Eric Weinstein: «المواهب التقنية يمكن أن تبني مستقبلًا أكثر تفاؤلا كان هذا هو الحال في منتصف القرن العشرين، لكننا فقدنا ذلك على جانب الطريق، في المقابل هناك قوى عظمى مثل الصين أصبحت تتبنى ما كنا نقدره سابقًا وتركناه الآن -يقصد الأشخاص الذين يتمتعون بالمواهب التقنية-».

الحاجة الحقيقية الآن هي أن ينتج عن التعليم الذي يشجع على الابتكار طبقة مبدعة، وأن تستلم هذه الطبقة المبدعة المناصب الإدارية ليحصل التغيير، ستقوم هذه الطبقة -بحسب إريك-  بفصل نفسها عن ذوي الثراء الفاحش غير الحساسين للمجتمع وسيكون الجدل بينهم قائم على أن تقدم الطبقة الفاحشة الثراء تنازلات تنير الطريق للطبقة المبدعة لتفكر في أعمال وخطط يعيش فيها الجميع  بكرامة.

دور الحكومة في تنظيم السوق الحرة لصالح المواطنين

فصل السوق الحرة عن أنشطة الحكومة يخضع للكثير من النقاشات السياسية، لأن الأغلبية تعتقد أنه يجب أن يخضع نظام الاقتصاد الحر لبعض القواعد التي تضعها الدولة، لا يوجد نظام اقتصادي حر بالكامل، على الدولة أن تضع قوانين أكثر تحكم الإفلاس والاحتكار والعقود وحقوق الملكية.

الامل الوحيد في نظر الكثيرين، هو أن تقوم الحكومة بدورها بشكل إيجابي في السوق الحرة بإدخال تنظيمات وقوانين تنظم السوق مثل«قانون غلاس ستيغل Glass–Steagall» عام 1933 بعد الكساد الكبير الذي حل بالاقتصاد الأمريكي عام 1929، ونص هذا القانون على ضرورة فصل الخدمات المصرفية الاستثمارية عن الخدمات المصرفية التجارية،بحيث منع البنوك التجارية من التعاون مع البنوك الاستثمارية في استثمار أموال العملاء في أعمال التجارة وبذلك حمى مودعي المال من خطر تدهور العملات وخسارة التجارة وبذلك فصل بين نوعين من البنوك: بنوك تجارية، وبنوك استثمارية يميز العميل بين خدمات كل منهما ويختار العمل معهما إما بشكل استثماري توفيري أو بشكل تجاري حسب المناسب له.

فرض قوانين تساعد الشركات المبتدئة والناشئة تحفزها وتدعمها للعمل والقيام بحملة إصلاح تمنع الشركات الضخمة من استغلال وزنها في صناعة القرار، واختيار المستهلكين أن تتم تعاملاتهم مع الشركات الصغيرة لتنشيط عملها لا مع الشركات الضخمة ذات الفروع المتعددة يزيد من كفاءتها ومن خلق جو تنافسي شريف.

وفي الجانب الآخر من السوق الحرة – العاملين – تستطيع الدولة أن تلغي جميع الضرائب على راتب الموظف وتنقل نواقص هذه الضرائب بأن تزيد من قيمة الأراضي وضرائب الشركات الضخمة، وتشجع على استخدام الموارد الطبيعية بدل الموارد البترولية ويمكن أيضًا زيادة فرص امتلاك أسهم من الشركات التي نعمل فيها أو نشتري منها، فتؤدي هذه العملية إلى التنويع في أشكال الملكية في الاقتصاد ويؤدي ذلك إلى ظهور التعاونيات العمالية التي تطالب من كل شركة حصة للموظفين يشاركون فيها بتملكهم للشركة بناء على مدة بقائهم فيها ومستواهم الوظيفي.

يمكن حلها أيضًا بتوفير البيئة العالمية المناسبة للشركات المبتدئة وزيادة نسبة تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وإلغاء الاحتكارات التي تقوم بها الشركات الضخمة.

راتب شهري للمواطنين.. هل هذا حل خيالي؟!

خيار أن تقوم الدولة بتوفير مبلغ شهري ثابت للمواطنين لا تتحكم به البورصة، يوفر أمور الحياة الرئيسية ويؤمن نوعًا من الثبات لو حصل تراوح في الدخل مع تقلب الاقتصاد للوهلة الأولى يعتبر خيارًا خياليًا لأنه سيزيد من دين الحكومات وسيؤدي بها إلى مصائب أكبر.

المخرج الوحيد من هذا المأزق أن تقوم الحكومات بتطوير طرق إصدارها للمال بحيث تحول طريقة إعطائه للمواطنين من إصداره باعتباره عملة وصرفه نقديًا إلى إصداره كـ«مال رقمي digital currency» – وهو المال الذي يتم تناقله إلكترونيًا عبر بطاقات الائتمان والإنترنت .

(شرح مبسطة للعملة الرقمية)

فيعتبر هذا تحفيز إضافي في رواتب الموظفين والعاملين وهذا أمر يقلل من الاقتراض وجمع الضرائب على الدولة ويحافظ على حركة شراء في الاقتصاد وينعشه في نفس الوقت، خصوصا لو عرفنا أن 95% من المال الرقمي تتحكم به البنوكالخاصة.

الرفاهية واسعة النطاق «broad based prosperity»

هناك تقاسم مشبوه بين الحكومة والسوق الحرة ويوضح  روبرت ريتش، المحلل السياسي الأمريكي أن «الخيار الحاسم حقًا سيكون بيد الحكومة  بين سوق منظم يوفر الرخاء على نطاق واسع broad based prosperity وآخر مصمم ليوفر المزيد من الربح للطبقة العليا والخيار الصحيح قد ينقذ الرأسمالية، والسوق المنظم الذي يوفر الرخاء على نطاق واسع لن ينشأ من الشجب والتنديد للوضع الراهن بل من قوى الإصلاح العادلة والفاعلة».

ولكن ماذا تعني الرفاهية واسعة النطاق؟

يطالب الحقوقيون والناشطون بأن يوفر النظام الرأسمالي رفاهية على نطاق أوسع لا أن تنحصر الرفاهية في  يد أولئك فاحشي الثراء وأن يتم توزيع الأموال بشكل أكثر عدالة، ويقولون إن الأثرياء يحبون الرفاهية لكنهم لن يضعوا أموالهم في الخزنة ويصرفونها كلها بل سيقومون بإنشاء أعمال جديدة  تجلب لهم أرباحًا تكبر وتزيد من نسبة رفاهيتهم، هل سيعطون البقية؟ ربما ببعض الأعمال الخيرية التي تخفف من ضرائبهم  لكن كي تكون الرفاهية واسعة النطاق يجب أن تتدخل الحكومة بأن تُخضع أموال الأثرياء لنسبة أكبر من الضرائب، وبذلك تستخدم الدولة هذه الضرائب لتوفير حياة أكثر رفاهية للجميع.

 هل يكفي أن تعمل النقابات العمالية على كشف الحقائق فقط؟

فضح الشركات الضخمة وكشف جشعها لا يكفي باعتباره استراتيجية لخلق توازن في القوى الاقتصادية، على الاقتصاديين في نظر الكثير من المفكرين التركيز على الإجراءات التعويضية، ومتابعة قضايا الفساد ونشرها عبر وسائل الإعلام وجمع الرأي العام حولها، مثلا الترويج لاستغلال قوة الرياح كان في فترة ما مدعومًا وناجحًا، من ساهم في إفشال هذه الخططوقتها ولماذا؟

نقابات قوية وجمعيات تعاونية.. مملوكة ديمقراطيًا

أهم ما أنجح دول أوروبا الغربية أن لها نقابات عمالية قوية مكنتهم من الدفاع عن المواطنين وطالبت بمطالب مشتركة بخلق اقتصاد إنساني يلبي احتياجات الشعب ووفرت الأمن الاجتماعي والسكاني لهم، ونشطاء سياسيين جعلوا الدولة تفرض لوائح صارمة على الشركات وتمكنت من إزالة هيمنة قوى المال على النظام السياسي فصارت القوانين في صالح الموظفين لا ضدهم.

الجمعية التعاونية هي رابطة طوعية مستقلة ذات احتياجات اقتصادية واجتماعية وثقافية مشتركة، تجمع عدد من الأشخاص ذوي احتياجات مشتركة ويقررون القيام بمشروع يملكه الجميع بأسهم حسب أنظمة معينة ويديرونه هم ويكون الجميع على دراية بالقوانين والمعاملات والأرباح يستفيدون منها ماديًا ويلبي حاجاتهم ويبتعدون عن طمع وجشع التجار الكبار، فقد تبدأ هذه الجمعيات ببقالة تعاونية وتعاونيات إسكانية وتمتد لتصل لمنافسة الشركات الضخمة بهدف خدمة المواطن وراحته ورفاهيته بل لهدف الربح ذاته أيضًا.

ربما كل هذه الإصلاحات ليست بحاجة لاسم نظام معين

يقول Eric Weinstein: «نحن بحاجة إلى نظام هجين بين العديد من الأنظمة الاقتصادية ربما يصبح رأسماليًّا أكثر من الرأسمالية الحالية وربما يصبح اشتراكيًا أكثر من الاشتراكية في أوجها، لكنه بحاجة لأن ينجح ويعمل لصالح المواطن فقط».

وعند سؤاله عما إذا كانت الرأسمالية في نهايتها قال: «نحن الآن في مرحلة الرأسمالية المتأخرة late capitalism وهذا لا يعني أنها نهاية الرأسمالية، بل يعني أن الرأسمالية قد تخطت المرحلة الأولى وأن المرحلة الثانية منها تكون بمبادئ لا تشابه المبادئ التي بدأت بها الرأسمالية بالضرورة».

(ماذا تعني الرأسمالية المتأخرة؟)

عندما ضرب زلزال في اليونان القديمة، أخذ الناس بالنظر إلى السماء مفترضين أن الإله بوسيدون  قد غضب عليهم،  ولم يفكروا في أن الأرض المهتزة تحت أقدامهم والتصدعات فيها قد يكون سببها زحزحة الصفائح التكتونية، وهكذا الرأسمالية اليوم ما أن أصبحت تعاني من الأزمات حتى أخذت تلوم «قوى خارجية» تحاول الإطاحة بها دون أن تنظر إلى تناقضاتٍ تضعضع صميم نظامها وبحاجة لتدخلات سريعة قبل أن تقودها للهلاك.

المصدر