وتصل هذه المبتكرات إلى مئات النماذج من المنتوجات الفنية اليدوية الصنع، التي تنم عن احترافية نادرة تجمع بين مهارة الحرفة وروعة الفن.
رحلة عمر
بدا مستبشر -الرجل الستيني صاحب البشرة الخمرية والعينين الدقيقتين- منهمكا في خط مسارات زخرفة هندسية، يجتهد في حفظ تناسقها بأقلام نقش فولاذية، قبل أن ينطلق في حفر منعرجات دقيقة على “صفيحة النحاس” بطرق سريع متقن، مستعينا بمهاراته الفنية وسنوات الاحتراف الطويلة التي قضاها في ورشات نقش هذا المعدن الفريد، يطوّع قطعه ليصيرها أشكالا فنية رائعة.لم تكن طرقاته عشوائية، وإنما طرقات حرفي ماهر توحي لسامعها أنه يستمع إلى سيمفونية موسيقية عذبة، تنتهي في نهاية المطاف بلوحة فنية غاية في الجمال.
مستبشر بين شهادات تقدّر إبداعه (الجزيرة) |
يقول مستبشر وقد التقف تحفة ليضفي عليها لمساته الأخيرة، ممعنا النظر في نقوشها ليتيقن بخبرته أنها صارت صافية ولامعة: إنه تأقلم مع معدن النحاس على مدى خمسة عقود من ممارسته لهذه الحرفة، وأصبح يفهم ميزاته وخصائصه، وتعلم كيفية تطويعه ليخرج من بين أصابعه لوحات وأواني نحاسية متميزة.
كغيره من المعلمين الكبار للحرف التراثية، بدأت رحلة مستبشر مع المهنة في سنوات الطفولة، حين كان يتابع بشغف من نافذة غرفته الحرفيين بورشة كانت بأسفل بيت أسرته، وهم يملؤون الأجواء بإيقاع طرقهم للنحاس. وقال “إن ذاكرته امتلأت بمشهد إبداعهم صنع أشكال فنية انطبعت في ذهنه”.
يروي مستبشر في حديث للجزيرة نت، أنه بدأ يرتاد الورشة وهو ابن ثماني سنوات، بعدما رُفض تسجيله في المدرسة لسنتين متتاليتين بسبب عدم بلوغه سن التمدرس في المرة الأولى، ولتجاوزه بقليل في المرة الثانية”.
وتابع “بورشة معلمي البيئي رحمه الله وببيته، تعرفت على أبجديات الحرفة، وإلى جانب المعلمين برادة وبنسليمان، تشربت أصولها إلى أن صارت جزءا مني”.
وأشار مستبشر وقد علت الابتسامة محياه، أن أجره لم يكن يتعدى في بداياته دولارا في الأسبوع، وانتقل إلى أربعة دولارات في اليوم عندما احترف المهنة، قبل أن يطور عمله ويمتلك مصنعا خاصا به.
مهنة وفن
“النقش على النحاس وصناعة أشكال بديعة من قطعه، فن لا يُقبل عليه إلا كل متذوق عارف أن هذا العمل لا بد أن يكون بإلهام وخيال خصب لبلوغ الإبداع”، هذا ما يؤكده مستبشر الذي يحرص على نقل هذا الفن إلى الأجيال الشابة ومنهم ثلاثة من أبنائه.
ويرى الحرفي هشام مرون أن زميله مستبشر من الراسخين في مهنته، وله حضور قوي فرضته الخبرة والتميز في عمله، حيث استطاع أن يترك بصمة ميزته عن باقي الحرفيين.
بينما يفتخر مستبشر بإنجازه تحفا نحاسية تراصت بشكل متناسق في متحف يأخذ زائره إلى عمق تاريخي موغل في تفاصيل حرفة عريقة. قال صديقه رشيد نبوع “إنه أتقنها حتى غدت جزءا من حياته”، معتبرا إياه “سفيرا لبلده من خلال مهنته”.
وتشكل مجسمات معالمٍ تاريخية وأثرية -مثل ضريح محمد الخامس وصومعة حسان ومسجد الحسن الثاني- ومجسمات لشعارات المغرب، نسبة مهمة مما يحفل به هذا المتحف.
وفي مطبوع يؤرخ لنماذج من إبداعاته، يوثق مستبشر هدايا مميزة شاهدة على موهبته، منها مجسم لخريطة المغرب أهدته الأكاديمية الملكية العسكرية للملك الراحل الحسن الثاني.
واعتبر المختار الفزيقي أمين قطاع النحاسيات (اتحاد للحرفيين)، أن مستبشر تمكن خلال مسيرته المهنية من المساهمة في الحفاظ على أصالة وتاريخ هذه الحرفة التراثية التي يبلغ عمرها قرابة الثمانية قرون، كما ساهم بإبداعاته في تنمية قطاع النحاسيات الذي تمارس أنشطته فيما يقارب ثلاثمئة حلقة إنتاج، ويستقطب حوالي ثمانية آلاف عامل، و2500 صانع ما بين منتجين وتجار، فضلا عن 250 صانعا يدويا؛ لا وجود للآلة ضمن عملهم