نواكشوط 2080 / عبد الفتاح ولد اعبيدن

0
342

أحد أحفادي يتجول في العاصمة نواكشوط، أحد أيام الشتاء القارس من شهر
يناير 2080 أرسل إلي إشارات سبقية من عالم الذّر، قائلا يا جدي أصبر على
مسار التضحية والظلم والحرمان، إن مع العسر يسرا.
كانت مؤشرات وإشارات رسالته في أغلبها مشفرة، كلما قرأت منها على وجه اليقين أن موريتانيا وقتها تحت حكم مدني إسلامي تشاركي، وتسود فيها
العافية والعدل بمعنى الكلمة.

قرأت من رسالة حفيدي المشفرة جدا، الغائرة في طلاسم الغيب أن الرئيس
وقتها طويل القامة مرتاح البال قليل الهموم، لأن صلاحياته محدودة،
والنظام حينها برلماني تشاوري، والصلاحيات موزعة بين النخبة المدنية
الحاكمة، ولم يبق له إلا الصلاحيات العليا المتعلقة بالأمن القومي وإدارة
الشأن العام على وجه غير ذي كلفة معقدة.
عندما ينتهي الدوام يوم الجمعة يخرج رئيس الموريتانيين وقتها من القصر
الرمادي الحالي دون تغييرات كبيرة سوى بعض التنميقات الشكلية، وتوسعة
مكانية تظهر في الصورة لمساحة القصر الرئاسي الحالي.
أجل يخرج الرئيس من مكتبه دون حراسة ويمتطي سيارة بسيطة موريتانية الصنع،
ويذهب إلى السوق وحده لا يصحبه إلا أحد أولاده في المقاعد الخلفية، يلهو
بدمية من ورق، ويضحك ملء شدقيه، وهو مرتاح لأنه لم يأكل قط رغيفا، حراما
أو مشبوه المصدر، منذ أن دخل أبوه القصر الرئاسي الرمادي.
يخترق الرئيس بسرعة جدار الصمت عبر شوارع وجسور نواكشوط الخلابة، ويأخذ
بعض حاجاته البسيطة من إحدى البقالات في قلب العاصمة دون أن يقول أحد “هذ
الرئيس”!.
ويعود بسرعة إلى القصر ليقيم بنفسه صلاة الجمعة بمن أراد أن يحضر الجمعة
من عامة الناس، فيحضر بعض الجيران للصلاة في الجامع الرئاسي الذي طرأت
عليه تحسينات طيبة، ولأن التحصينات والحراسات موجودة فعلا على أبواب
الرئاسة لكنها خفيفة وشكلية ولا تمنع أي شخص من الدخول إلى الجامع
المذكور للصلاة سواء يوم الجمعة أو غيرها، كما لا يمنع أي شخص سواء كان
مواطن أو أجنبي من الدخول إلى مكاتب الرئاسة لقضاء حاجة ما، أو تقديم طلب
ما، أو استفسار من أي شكل.
أخبرني حفيدي من خلف أستار الغيب أن حادثة طريفة شاهدها في إحدى “قنوات
شبكة الأقصى” بين عجوز وصحفي يدافع عن نفسه أمام الرأي العام، حيث اتهمته
العجوز الواعية المتمدنة القادمة من بير أم اكرين على الحدود مع الجزائر
بأنه قصر في إبلاغ حجتها للرأي العام في شأن عقار تملكه في إحدى دول
اسكندنافيا تنازعها فيه أسرة من أصل إسرائيلي، اضطرت للسكن والاستقرار في
أوربا، والسويد تحديدا بعد سقوط دولة إسرائيل سنة 2075 ميلادية.
وادعت العجوز الموريتانية أنها أبلغت عبر الهاتف الصحفي بتفاصيل قضيتها،
لإيصالها للرأي العام الموريتاني عبر قناة الأقصى الناطقة باللغة
الانكليزية والتي يتم تلقيها على نطاق واسع في الدول الغربية عموما، عسى
أن يكون ذلك النشر فيه كفاية عن الشكوى من اليهودية المسكينة، المتجنسة
قبل سنوات قليلة في السويد، غير أن الصحفي أمام الرأي العام اعتذر إلى حد
قارب البكاء للعجوز الوقورة المسؤولة الحازمة، مدعيا أنه لم يبرمج قضيتها
للنشر بسبب تراتبية المشاغل والاهتمامات الإعلامية، وليس إهمالا للأمانة
ومقتضيات المهنة.
سألت حفيدي كيف تعيش الصحافة عندكم؟، ألم تعد توجد ظاهرة “البشمركة؟، ولو
بقايا من بقايا، رد علي مسرعا مستغربا لا ورب الكعبة، لقد نظم سوق
الإعلان عندنا وما هو موجود من الإعلانات وبوجه خاص، من قبل المستثمرين
الوطنيين والأجانب، بعدالة وتوازن وإنصاف، جعل الصحافة الموريتانية
بمختلف تجلياتها في مصاف زميلاتها عبر العالم.
أما المهنية فحدث عنها ولا حرج، فمستوى التناول الإعلامي من حيث الأسلوب
والمحتوى في مستوى مثير للإعجاب والارتياح المطلق.
يقول الحفيد المدلل، الصحافة في نواكشوط، وفي موريتانيا عموما، من أركان
وأسباب نجاح وسعادة الموريتانيين.
فعلا يا جدي حفظك الله، الصحافة في هذه المرحلة أصبحت بامتياز، ملتزمة
إسلاميا، ومهنيا وأخلاقيا، ومنعشة متنوعة جذابة، وموصلة للحاكم والمحكوم
كل ما ينبغي أن ينبه عليه بحكمة وجرأة وتوازن، في سياق التعريف المهني
الذي تمليه هوية الصحفي قانونيا “الصحافي هو الشخص المخول بالحصول على
الخبر ومعالجته دون ضغوط أو مخاطر”.
وعلى وجه العموم يا جدي لقد وصلنا لمرحلة التنظيم الرائع المتميز في كل
المجالات، وأصبحنا مثلا نحتذى في كل ميدان، بدءا بالإعلام ومرورا
بالعدالة وحسن التسيير والشفافية في كل مجال، ولا يوجد من الأسرار
الممنوعة إلا نزر قليل له صلة دقيقة بالأمن القومي، أما بقية ذلك من
الوثائق فلا يمنعك من الحصول عليه إلا أن تسأل عنها الجهة المعنية، وأيضا
حالات السرقة تكاد تكون مستحيلة التسجيل إلا لماما، كما أن حوادث السير
بسبب حسن التنظيم أصبحت نادرة جدا سواءا في العاصمة أو خارجها، والوضعية
الصحية والبيئية في أحسن الحالات تبعا لما أعد لذلك من برامج واحتياطات،
وبسبب مستوى الوعي لدى المواطن الموريتاني عموما.
أما الأحزاب السياسية، والنقابات وغيرها من المنابر، فعملها محدود وميسر
وإن كان كبير الفائدة بسبب عدم تعقد المساطر وسهولة التعاطي مع الإدارة
والشأن العام، عموما في مختلف المستويات.
قلت له أين ذهب الجيش الموريتاني؟ قال هو في وضعيته الجمهورية الدستورية
على أنصع وأرفع وجه، وله وزن نوعي في شبه المنطقة والعالم، إلا أنه بعيد
من السياسة، والحاجة الدفاعية لدينا محدودة نظرا لكفاءتنا الدبلوماسية،
وصلاتنا جيدة بالجيران، والعالم أجمع.
تصبحون على خير إخوتي القراء اقبلوها أملا وتوقا لمستقبل أفضل بإذن الله،
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن ماجه “إن الله يحب
أن يسمع الفأل الحسن”، لكن السياق السابق لا يقتصر على التفاؤل فحسب،
وإنما ما نعيشه الآن، من حرية الصحافة رغم النواقص المادية الحادة،
والتكوينية الجمة، والمهنية المخلة.
أجل هذه الحرية الفوضوية مع مرور الوقت ستكون سببا في فصل السلطات، وقيام
كل جهة بدورها الملائم على أحسن وجه، وسيتحقق ذلك قطعا بإذن الله سنة
2080، أو قبل ذلك إنشاء الله، بمستوى مريح على الأقل، والبقية تأتي
لاحقا، بإذن الله.
اقبلوا مني هذه التدوينة الصباحية من مدينة نواذيبو الجذابة من داخل إحدى
شقق شاطئ الراحة، والسلام عليكم ورحمة الله.
وأجدد لكم التحية أسرة القراء في كل مكان وفي كل زمان، لأنني أعرف أن هذا
المقال ستتم قراءته مرارا وتكرارا، وسيترجم إلى لغات العالم، وخصوصا بعد
وفاتي، بعد عمر مديد في طاعة الله، وسيعتمد لدى الدوائر الدولية يوما ما
بإذن الله، كنموذج لافت ليس للتوق والأمل فحسب، وإنما ضمن التخطيط
الاستراتيجي عبر دفع الشعب وطاقاته، ونخبه الحية للتفكير، والطموح
المشروع.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر