الحدود الشكلية بين كلمتي “استقلال” و “استغلال” حدود صوتية باهتة يزيلها
بعض الموريتانيين عن غير قصد فينطبق القاف على الغين فى وحدة صوتية مشوشة يفهمها السامع حسب خلفيته السيميائية، ويصبح الاستقلال هو الاستغلال،
ولأن الاسم هو ما دل على المسمى فقد أصبح تخليد ذكرى الاستقلال يحمل الكثير من الاستغلال.
فالاستقلال الأول فى 28 نوفمبر 1960 حمل كل الدلالات وكان إيذانا بميلاد
دولة جديدة بعلم ونشيد جديدين وبتوجه جانح لإنشاء كيان موريتاني مستقل
ينهي عهود إلحاق مستعمرة موريتانيا بالسينغال ويتصدى لكل مطامع الضم
والاحتواء التي تكالبت على الكيان الجديد من هنا وهناك ويؤسس لبناء دولة
انبثقت من كثبان رملية موارة تذروها رياح الفصول المتعاقبة فى كل
الاتجاهات .. حينها كانت هنالك فكرة تحولت إلى رؤية ثم إلى مشروع دولة.
لقد كان استغلال الرعيل الأول للاستقلال فى هذا الاتجاه لا فى سواه
وتتالت السنوات والعشريات وانزاح قرن وبدأ آخر وما تزال جهود تأسيس
الدولة ناقصة وما تزال التحديات ماثلة وما تزال مقاربات توحيد الجهود
وصيانة ما تم وصولا لما سيكون ماثلة للعيان.
لكن المؤسف أن ذكرى الاستقلال بدأت تستغل لأغراض شعبوية تقضى على مخارج
الحروف وتصهرها فى بوتقة مشخصنة .. فتختلط البدايات والنهايات وتتنافر
السبل والغايات وكأن التاريخ يبدأ مع تسنم الرئيس الممارس لعرش بلاد
السيبه ويتحول الفعل الوطني على مر العصور إلى أرخبيل جزر لا رابط بينها
ويظل كل جيل معتصما فى إطاره الزمني وقد تصل الأمور أحيانا لدى ضعاف
النفوس حد تصور أن ما يقوم به هذا الرئيس أو ذاك لا بد أن ينسخ ما قام به
من سبقه لكي يأتي بجديد .. وتخسر البلاد لحمة التراكم وتستمر ضحية لمصفقى
اللحظة .. وحين تنتهي اللحظة ويغيب شخص اللحظة ينتهى كل شيء .. وتبدأ
محاولات البدء من جديد.
لقد حان الوقت لكي نتجاوز هذه المسالك العبثية ونعيد لجيل الاستقلال
الأول جيل التأسيس ما هو أهل له من تقدير واعتبار وننصف الأجيال التالية
ونضع الفعل الوطني فى سياقه الحقيقي التراكمي التكاملي الحداثي التطوري،
فمهما تعددت الأشكال يظل الجوهر واحدا ويظل الاستقلال انهاء لكل استغلال
أو لا يكون.