هناك دراسة حديثة كتبها ميشال ريبان، الكاتب المتخصص في الشؤون العربية والدولية، وخاصة منها ما يتعلق بما يُسمَّى في بعض الأدبيات الإعلامية “الربيع العربي”، وعنوان هذه الدراسة: “عشر دول مهددة بعدم الاستقرار وهي: المالديف، موريتانيا، الجزائر، إثيوبيا، نيجريا، تركيا، روسيا، السعودية، الأردن والصين”، ولا يهمني في هذا المقام ما كتبه عن البلدان الأخرى التي ذكرها والمعطيات الجيوسياسية والاقتصادية الاجتماعية التي اعتمد عليها، وإنما يهمني ما كتبه عن الجزائر.
قبل أن أعرض ما كتبه، لابد في البداية من الإشارة إلى أن “معهد المؤسسات الأمريكية”، كما يعرف من موقعه، هو مركز أبحاث السياسة العامة المكرسة للدفاع عن كرامة الإنسان، وتثمين الطاقات البشرية، وبناء عالم أكثر حرية وأكثر أمنا. وهو معهد يعمل لبناء الديمقراطية في العالم الحر، وهي الديمقراطية التي لا تتحقق إلا ببناء الإنسان الحر وتوليد الأفكار الحرة، بمشاركة عالمية وقيادة أمريكية، ويدّعي المعهد أنه المدافع عن حقوق الإنسان في العالم بصورة إنسانية اجتماعية بعيدة عن كل هدف أو معطى سياسي، سواء كان هذا المعطى السياسي في شكله الرسمي المرتبط بسلطة الدولة أو في شكله الحزبي المرتبط بالأحزاب السياسية، ويدّعي المعهد أن كل أفكاره واستراتيجياته مؤسسة على الفكر الأكاديمي الحر، الذي يجب أن يكون الموجه الأساسي والوحيد لبناء الديمقراطية في العالم.
ويدَّعي هذا المعهد بأنه همزة وصل بين كل المبادرات والإبداعات التي تصبّ في الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تهدف إلى إيجاد تحالفات وفق هذا المنظور بعيدا عن التحالفات السياسية التي قادت العالم إلى الصراع المحموم الذي نتج عنه توترٌ في أكثر من نقطة في العالم.
ومن هنا يبدأ الكاتب ميشال ريبان حديثه عما يسمى “الربيع العربي”، الذي قال عنه إنه نتاج الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية، والدليل على ذلك أن الدول التي توقع بأنها “مهددة بعدم الاستقرار”، تشهد أو شهدت انحطاطا اقتصاديا أو اجتماعيا، ويمس الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي: المالديف وموريتانيا وإثيوبيا والجزائر وروسيا والأردن، في حين يمس الإخفاق الاجتماعي: نيجيريا وتركيا وروسيا والسعودية.
ولا شك -كما يُستنتج مما كتبه ميشال ريبان- أنه يدرج الجزائر في المجموعة الأولى التي تشهد إخفاقا اقتصاديا واجتماعيا وهو مؤشر –حسب زعمه- لحدوث “ربيع عربي” في الجزائر على المدى القريب، حيث يقول في هذا الخصوص: (الجزائر هي أكبر دولة في إفريقيا، وكان من المنتظر أن تكون الجزائر واحدة من أغنى الدول في هذه المنطقة الإفريقية، لكن عقودا من الحكم العسكري والسياسات الاقتصادية والحرب الأهلية المدمِّرة في التسعينيات كان لها أثرُها البالغ. إن جنوب الجزائر يُعدّ ملاذا لتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”. والرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة، الرجل القوي لفترة طويلة في الجزائر، والذي من المحتمل أنه لن يواصل قيادة البلاد وليس هناك خلافة واضحة، وحتى لو كان الرئيس يتمتع بكل قواه ويمارس كل سلطاته السياسية، فإن الجزائر تحت قيادته ستضطرُّ إلى مواجهة التنظيمات الإسلامية في جنوب البلاد التي قد تسعى للانتقام من “القمع الطويل” الذي تعرّضت له. كما أن الوضع في ليبيا من شأنه أن يكون عاملا من عوامل زعزعة الاستقرار في الجزائر بما فيه الكفاية. وهو التهديد الذي قد يصل مداه إلى أوروبا القريبة من السواحل الليبية التي تتواجد بها التنظيمات الإرهابية)؟!
هذه الفقرة تؤكد أن معهد المؤسسات الأمريكية قد خرج عن مهامه الاقتصادية والاجتماعية المزعومة ليُقحم نفسَه في السياسة إلى أبعد الحدود، وأنه يعتمد على تقارير إعلامية أمريكية لا تحسن إلا الترويج لفكرة الفساد التي توقعها أقلامٌ مأجورة ويرقص على إيقاعها كثيرٌ من عديمي العقلانية والوطنية، ما علاقة الإنعاش الاقتصادي أو الإخفاق الاقتصادي بالسلطة الحاكمة؛ مدنية كانت أم عسكرية؟ وهل كانت المؤسسة العسكرية في الجزائر في أيِّ مرحلة من المراحل عائقا أمام الإنعاش الاقتصادي؟ وهل كانت في المقابل سببا من أسباب الإخفاق الاقتصادي؟ إن إسهامات المؤسسة العسكرية في الاقتصاد الجزائري مساهمة كبيرة تدلّ عليها الأرقام والنتائج المحققة، كما أن الجزائر لا تمثل حالة استثنائية في العالم من حيث تأثرها بالأزمة الاقتصادية والمالية، فهذه الأزمة تكاد تكون صورة مكررة في مناطق كثيرة من العالم حتى تلك التي تنتمي إلى العالم المتمدن، فما مبرر جعلها بداية لربيع عربي في الجزائر؟.
هناك مبالغة متعمَدة في الحديث عن الفترة العصيبة التي مرت بها الجزائر في التسعينيات، فما حدث لا يخرج عن كونه مأساة وطنية لا ترقى إلى حربٍ أهلية.
ومن جهة أخرى: ما جدوى الاستثمار السياسي في صحّة الرئيس الجزائري وربط ذلك بواقع السياسة الاقتصادية والاجتماعية؟ ما دخل الرموز السياسية في النقاش الاقتصادي والاجتماعي؟
أما حديث ريبان عما سماه “الوضع المتوتر على الحدود الجنوبية للجزائر”، فيدلُّ على أنه يعتمد في ذلك على مقاربة أو بالأحرى مغالطة أمريكية تقوم على أن التوتر في الحدود الجنوبية للجزائر مؤشرٌ على التوتر العام الذي ستشهده الجزائر بحدَّة في السنوات المقبلة، إننا لا ننكر هذا التوتر على الحدود الجنوبية ولكن الجزائر ليست طرفا فيه، ودورها يقتصر على محاولة تجفيف منابعه، مع اتخاذها كل الإجراءات والاحترازات من أجل تأمين البلد من أي اختراق إرهابي محتمل من كل الجهات، ومنها الجهة الليبية التي يراهن عليها ريبان، والذي نعتقد أنه رهانٌ خاسر من البداية بدليل أن الجزائر تراقب الوضع في الجنوب عن كثب وجيشها يؤدي مهمة الدفاع عن الحدود على أكمل وجه.
إن أسلوب التهويل الذي تنتهجه الدوائر الأمريكية حول المنطقة المغاربية ومنها الجزائر يؤكد التدخل الأمريكي السافر في الشأن الداخلي، كما يؤكد من جهة أخرى أن الصورة القاتمة التي رسمها معهد الشركات الأمريكية عن الجزائر وعن بعض الدول العربية الأخرى ومنها موريتانيا والأردن والسعودية يدل على التورُّط الأمريكي فيما سمي “الربيع العربي” الموجه أساسا لزعزعة استقرار المنطقة العربية وتشجيع الصراعات الداخلية، وهذا ما تؤكده دراسة صادرة عن معهد الشركات الأمريكية لميشال ريبان بعنوان: (دور أمريكا في صناعة الربيع العربي)، وملخص ما جاء فيها: (.. لقد دعت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى الديمقراطية في مصر في عام 2005، وقال فرانسيس ريتشاردوني سفير الولايات المتحدة في القاهرة للطلاب المصريين: إن الحاكم المصري حسني مبارك يتمتع بشعبية كبيرة حتى إنه يمكنه الفوز في الانتخابات الأمريكية).
هذا التململ والتذبذب في التصريحات الأمريكية في مصر ولد لدى الطبقة الشعبية في مصر مواقف متباينة مما يجب فعله إزاء التعامل مع الطبقة السياسية في مصر، وفي ظل الانقسامات السياسية والفوارق الاجتماعية والإيديولوجية الحاصلة انقسم الشارع المصري إلى قسمين: قسم متمسك بالسلطة القائمة ويعتبرها سلطة مثالية في حفظ الاستقرار السياسي والاجتماعي، وقسم ناقم ورافض لهذه السلطة القائمة وبدأ يفكر في إعلان العصيان المدني متى تهيَّأت شروطه، وهذا ما حصل فعلا بعد سنوات قليلة، وبذلك انطلت السياسة الأمريكية على ترجمة ما تسميه الدوائر الأمريكية “استفزاز الضمير الشعبي” على الشعب المصري وحصل ما يسمى “الربيع العربي” الذي ذهب معه نظامُ مبارك وتبعته أنظمة عربية أخرى في تونس واليمن.
بناءً على ذلك، اعتبر صاحبُ المقال أن أمريكا هي صانعة “الربيع العربي”، وهي تحاول رعايته لكي يمتد إلى بلدان عربية أخرى ومنها الجزائر، ولكننا نقول لها: إن حلم “الربيع العربي” المنتظر في الجزائر سوف لن يتحقق، والأزمة الاقتصادية والمالية لن تزيد الشعب الجزائري إلا تمسكا بوحدته ولن تزيده إلا تمسكا بوطنه ووطنيته.