في 13 يوليو (تموز) 2021 أعلن كرونل وست، أستاذ الفلسفة في جامعة «هارفرد» والناشط السياسي الأمريكي، تركه الجامعة المرموقة بسبب ما وصفه بـ«معاداتها للقضية الفلسطينية»، ويعد البروفيسور كورنل وست أحد أبرز الوجوده اليسارية المدافعة عن فلسطين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى رصيده النضالي في الدفاع عن حقوق السود الأمريكيين، وكتاباته في قضايا العنصرية، والتفاوت الطبقي والديمقراطية، وقد درّس في أبرز الجامعات العالمية، مثل هارفارد، وييل، وبرنستون، بالإضافة إلى جامعة باريس.
تقدمية لا تشمل فلسطين.. ما كل هذا الإجحاف يا هارفارد؟
أسفر إعلان وست مغادرته لجامعة هارفارد المرموقة جدلًا واسعًا في الأوساط الإعلامية والأكاديمية خصوصًا لانّه ربط عدم حصوله على الحصانة الأكاديمية بنشاطه في الدفاع عن القضية الفلسطينية، واعتبر أن إدارة جامعة هارفارد «معادية لفلسطين».
من الصعب القيام بحوار محترم، أي شخص ينتقد الاحتلال الإسرائيلي يجري وصمه باعتباره معاديًا لليهود ومعاديًا للساميّة في رمشة عين *كورنل وست
وقال وست إنّه ليس الوحيد الذي تعرّض لهذا الإجحاف بسبب تأييده للقضية الفلسطينية، بل هو مجرّد مثال واحد ضمن ظاهرة واسعة في الساحة الأكاديمية الأمريكية، وأشعل اتهام كورنل للجامعة المرموقة بمنعه من الترقّي الوظيفي بسبب دعمه للقضية الفلسطينية موجة من الاحتجاجات في أوساط طلبة الجامعة.
البروفيسور كورنل وست
وتقدم طلبة الدكتوراه في هارفرد بعريضة إلى إدارة الجامعة يطالبونها بمنح كورنل وست الحصانة الأكاديمية؛ واعتبر الموقّعون على العريضة أنّه من المقلق جدًا أن يُحرم كورنل وست من الحصانة بسبب مواقفه السياسية، وقد بلغ عدد الموقّعين حوالي 90 جمعية طلاّبية، و1800 توقيعًا شخصيًا.
أما الجمعيات الداعمة لإسرائيل، وأبرزها جمعية «هلال» الطلاّبية فقد انتقدت الأستاذ الجامعي بشدّة واتهمته بالترويج لنظرية المؤامرة وكراهية اليهود، وبشحن الطلبة ضد إسرائيل، بالنظر إلى أن البيان المؤيّد لكورنل وست احتوى كلمات مثل «الأبارتايد»، و«الاحتلال الإسرائيل»، و«الصهيونية»، وهو ما يطعن في وجود إسرائيل نفسها، حسبما قال مدير جمعية «هلال» الداعمة لإسرائيل، جوناه ستاينبرج.
قضية البروفيسور كورنل وست ليست حادثة معزولة في الوسط الأكاديمي الأمريكي، لكن هذه الحادثة بالذات تفتح نقاشًا أوسع حول مدى وجود عداء للقضية الفلسطينية داخل الجامعات الأمريكية، والتيارات التي تقف خلف هذا العداء، خصوصًا بالنظر إلى التأييد المتزايد الذي تعرفه القطاعات الطلاّبية لصالح القضية الفلسطينية.
فقد تحوّلت الجامعات الأمريكية في الآونة الأخيرة إلى ساحة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتتنوّع أوجه هذا الصراع الأكاديمي، من خلال طبيعة الضيوف الذين تستضيفهم الجامعات وعناوين الندوات التي تنشّطها الكليات، مرورًا بانتخابات المجالس التمثيلية للطلاّب وليس انتهاءً بالاحتجاجات والمظاهرات والعرائض؛ وهو ما وثّقه الكاتب كينيث شترن في كتابٍ بعنوان ذو دلالة: «الصراع حول الصراع.. النقاش الجامعي حول إسرائيل وفلسطين».
على سبيل المثال، خلال الحرب الأخيرة على غزّة في مايو (أيار) 2021، أصدرت المنظمة الطلاّبية لجامعة ميشيجان «CSG» بيانًا شديدة اللهجة ضد إسرائيل، اعتبر الحرب الأخيرة «استمرارًا للنكبة التي شُرد بسببها 700 ألف وقتل 20 ألف فلسطيني على يدي الإسرائيليين».
واعتبرت المنظمة ما يجري في غزة «تطهيرًا عرقيًا» وشبّهت إسرائيل بـ«نظام الأبارتايد»، ليس هذا فحسب، بل تطرّق البيان إلى ما وصفه بـ«المشاعر العدائية ضد الفلسطينيين» وندد بالتضييق الذي تتعرض له الأصوات الفلسطينية داخل جامعة ميشيجان: «في جامعتنا، نُشير إلى أن الأصوات المناهضة للاحتلال والخطاب حول تحرير الأرض جرى تهميشه بصورة عميقة من خلال الرقابة والتهديد من طرف المنظمات الأخرى في الجماعة، كما نقرّ بالدور الذي لعبه تنظيمنا سابقًا في دعم العنف الإسرائيلي من خلال المشاركة في الفعاليات مثل الرحلات السنوية إلى إسرائيل التي تدعم الدولة الاستيطانية ونظام الأبارتايد».
وقد خلّف هذا البيان الناري ردود أفعال غاضبة من طرف المنظمات الداعمة لإسرائيل، بالإضافة إلى تلك المحسوبة على التيار المحافظ، التي أدانت البيان بشدة واتهمته بالدعوة إلى «معاداة السامية»، وهي تهمة يجري استخدامها بشكل روتيني لإخراس الأصوات الداعمة لفلسطين.
تأييد طلابي وتضييق إداري.. نضال الأصوات الفلسطينية داخل جامعات أمريكا
في سنة 2019 وقّع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرسومًا تنفيذيًا يأمر جميع الهيئات الحكومية، بما فيها وزارة التعليم أنّ تتبنّى تعريفًا موسّعًا لمعاداة السامية، يشمل انتقاد إسرائيل، ويسعى إلى إسكات أصوات الفلسطينيين بحجّة معاداة اليهود، حسبما يقول النشطاء.
وقد كان لهذا المرسوم التنفيذي أثر بالغ داخل الجامعات الأمريكية؛ إذ شهدت العديد من الكليّات رفع دعاوى قضائية من طرف المجموعات المؤيّدة لإسرائيل، ضد الطلبة والنشطاء والأساتذة الناشطين في دعم القضية الفلسطينية، استنادًا على مرسوم ترامب التنفيذي الذي أعاد تعريف «معاداة السامية»؛ معتبرًا نشاطات الطلبة والأكاديميين المتعاطفين مع القضية في الجامعات الأمريكية، مندرجةً ضمن تعريف «معاداة السامية».
متظاهر مناهض للاحتلال الإسرائيلي في شيكاغو أثناء العدوان على غزة
وردًا على قرار الرئيس الأمريكي، تجنّدت عدّة جمعيات أمريكية من أجل توفير الحماية القانونية للنشطاء الفلسطينيين، من بين هذه الجمعيات، منظمة «فلسطين ليجال» (Legal Palestine) الحقوقية التي تُعنى بالشؤون القانونية للقضية في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك من أجل توفير السند القانوني للنشطاء العرب في الساحة الأكاديمية بأمريكا، وجاء في التقرير السنوي للجمعية بأنّها تلقّت أكثر من 170 شكوى حول مضايقات تعرّض لها طلبة وأستاذة جامعيون في 68 جامعة حول الولايات المتحدة الأمريكية.
ويرسم التقرير السنوي للجمعية الحقوقية، حالة فريدة من التباين الصارخ، بين الزيادة في التأييد والنشاط السياسي والأكاديمي الداعم للقضية الفلسطينية من طرف الطلبة والأساتذة الجامعيين الأمريكيين من جهة، وزيادة المضايقات والتهديدات والإجراءات العقابية ضد نشطاء القضية، سواء من طرف إدارة الجامعات أو الجمعيات اليهودية واليمينية المؤيدة لإسرائيل.
ويوثّق التقرير السنوي الانتهاكات الإدارية والتضييقات التي يتعرّض لها نشطاء القضية الفلسطينية داخل أسوار الجامعات، كما يوثّق في الوقت نفسه انتصارات هؤلاء النشطاء على الإدارة والمجموعات المؤيّدة لإسرائيل، ففي مارس (آذار) 2020، أصدر رئيس جامعة كولومبيا لي بولينجر بيانًا يدين فيه استفتاءً طلاّبيًا لمطالبة جامعة كولومبيا بمقاطعة الشركات المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي في انتهاكات ضد العرب، واتّهم الطلبة الداعين إلى هذا الاستفتاء بـ«معاداة السامية».
ورغم ذلك أصرّ النشطاء من الطلاّب على إجراء الاستفتاء في شهر سبتمبر (أيلول) من نفس السنة، والذي جاءت نتيجته لصالح مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي بنسبة 60%، فإن رئيس الجامعة قد كرّر رفضه للاستفتاء في بيان جديد، وفي أبريل (نيسان) 2020 أيضا، نشر رئيس جامعة «بوينت بارك» في بنسلفانيا مقالًا اعتبر فيه أن «حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس)» تمثّل شكلًا من أشكال معاداة السامية، وأنّ الحركة لا مكان لها في جامعته.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 جرى استفتاء في جامعة «تافتس» يدعو إلى إنهاء عقد التعاون بين شرطة الجامعة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وجاءت نتيجة الاستفتاء مؤيّدة لإنهاء هذا التعاون بنسبة 68%، إلا أن إدارة الجامعة أكّدت على رفض هذا الاستفتاء في بيان لها.
وفي هذا السياق وثّقت الجمعية الحقوقية تعرُّض الكثير من الطلبة في عدّة جامعات أمريكية إلى حملات تشهير ومطالبة بمحاكمتهم أو إزالتهم من هيئات تمثيلية طلابية بسبب منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي ناقدة للاحتلال الإسرائيلي ومؤيدة للقضية.
تغيّر في نظرة الأمريكيين القضية.. إسرائيل في مأزق!
لعلّ ردّة الفعل التي شهدتها الأوساط الجامعية الأمريكية، خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة مؤشّر على حدوث تغيير تدريجي ومستمرّ في النظرة الأمريكية تجاه القضية والانتهاكات الإسرائيلية، خصوصًا لدى فئة الشباب الذي بدأ يحتكّ شيئًا فشيئًا بالواقع الفلسطيني عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمؤثّرين بها، بعد أن كانت الرواية الإسرائيلية وحدها هي المسيطرة على الإعلام الأمريكي.
مظاهرة مناهضة للاحتلال الإسرائيلي في شيكاغو، مايو 2021
ويرصد أسعد أبو خليل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، هذا التحوّل الذي تعرفه القضية الفلسطينية في الأوساط الأمريكية في مقال له بعنوان «عناصر المأزق الصهيوني في أمريكا بعد غزّة»، وبحُكم إقامة أسعد أبو خليل في الولايات المتحدة منذ سنة 1983، فقد سمحت له هذه المدّة الزمنية برصد التغيّرات التي يعرفها الوسط الجامعي الأمريكي وتفاعله مع الخطاب الفلسطيني طوال 37 سنة، وتحوّله من الدفاع المتردّد والمستحي عن حقوق العرب إلى الهجوم على يد جيل جديد من النشطاء والحركات الاجتماعية والسياسية ضمن معسكر اليسار التقدّمي في أمريكا.
ويرى أبو خليل أن الحركة الصهيونية تعاني «مأزقًا» حقيقيًا على المستوى الشعبي والثقافي، وإن كانت لم تزل تحافظ على نفوذها في المؤسسات السياسية مثل البيت الأبيض والكونجرس، ويصف الأكاديمي ذو الأصول اللبنانية مشهدًا متكرّرًا عن الخطيب العربي في الجامعات الأمريكية الذي يحاضر حول القضية، وكيف تستخدم المجموعات المؤيدة لإسرائيل تكتيكًا يجعلها تسيطر على خطاب الخصم بطريقة ضمنية.
إذ تُرسل المجموعات المؤيدة لإسرائيل عناصر تابعة لها داخل الحضور في الندوات حول القضية، وتسارع هذه العناصر للحصول على الميكروفون لإلقاء الأسئلة، ويكون السؤال دائمًا: هل أنت مع الاعتراف بإسرائيل، أو «هل تؤمن بحق إسرائيل في الوجود؟ نعم أم لا» وهو ما يدفع المُحاضر العربي إلى التوتّر، والتلعثم، والاضطراب خشية الاتهام بـ«معاداة السامية» أو التطرّف.
هذا المشهد تغيّر بصورة كبيرة مقارنة مع فترة الثمانينات؛ إذ أصبح تأييد القضية الفلسطينية هي «الموضة» الشبابية الحديثة المرغوبة؛ عكس ما كان عليه الأفق الفكري الشبابي في السابق، حين كانت أسهم الليبرالية في ارتفاع، إذ لا يُسمح لك بدخول النادي الليبرالي حينها إلا بإثبات معاداتك للأيديولوجيا الشيوعية وتأييد الصهيونية بدون أيّة تحفّظات، حسب أبو خليل، وهو ما كان عليه الحال متطابقًا لدى جناحيْ السياسة الأمريكية، سواء الحزب الديمقراطي أو الجمهوري؛ وحتى لدى حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر، الذي تحالف مع الجمعيات الصهيونية.
ومن بين عناصر اليسار التقدّمي الداعم للقضية الفلسطينية، حركة «الحياة السود مهمة» والتي تربط بين عنصرية البيض ضد السود، وعنصرية الاحتلال الإسرائيلي ضد العرب؛ بالإضافة إلى بعض الحركات النسوية وتلك المدافعة عن الأقليّات، رغم ما يلحقها من اتهامات بمعاداة الساميّة.
«إنّها سابقة لم أعهدها في تاريخ إقامتي هنا» بهذه الكلمات يصف أسعد أبو خليل تعامل الطبقة السياسية الأمريكية مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة في مايو الماضي، ففي السابق كان هنالك إجماع على التأييد المطلق للعمليات العسكرية لإسرائيلية بغضّ النظر عن أعداد الضحايا، لكن خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، كان هنالك اعتراف بالضحايا المدنيين، أو على الأقل مساواة بينهم وبين نظرائهم الإسرائيليين، وحتى «تعبيرات عن القلق» من طرف بعض النوّاب الديمقراطيين من أعداد الضحايا ومن قصف إسرائيل لمراكز إعلامية في غزة؛ مما مثّل تحوّلًا ملموسًا في الموقف السياسي التقليدي الأمريكي من إسرائيل، استجابة لتغيّرات الرأي العام.
يوسف كامل