“عدل بكرو”.. كيف استردها الوزير الراحل عبد الله ولد الشيخ من مالي؟!

0
287

عقب وفاة الوزير والإداري السابق عبدالله ولد الشيخ ولد أحمد محمود، الأسبوع الماضي، تتالت الشهادات والإفادات حول سيرة الفقيد وماضيه وما طبع حياته من استقامة في السلوك والمواقف والممارسات، وكيف كان مثالا لرجل الدولة القوي في التزامه الوطني، والصادق في إيمانه بألوية الصالح العام، والنزيه الصارم المتعفف إلى أقصى حد فيما يخص الأموال والوسائل العمومية.

وقد ذكَر العديدون إسهامه في إدارة معركة « استكمال الوحدة الترابية الوطنية »، خلال الستينيات والسبعينيات، بما تطلبته من جهود لجمع وحصر الوثائق والأدلة التاريخية حول موريتانية « وادي الذهب »، وتحرير للمراسلات والمرافعات القانونية الدولية حول هذا الملف، ثم دوره في تطبيق اتفاق مدريد، تكريساً لسيادتنا على ولاية « تيرس الغربية » (وادي الذهب)، إذ كان خلال سنوات الحرب والياً للإقليم الذي مثّل هدفاً مباشراً لمقاتلي جبهة « البوليزاريو »، وكان عليه أيضاً أن يعالج خلافات واحتكاكات يومية مع قوات الحليف المغربي فوق أرض الولاية، بالصرامة التي تتطلبها علاقة من ذلك النوع في ذلك الوقت.

لكن ما لا يعمله كثيرون هو أنه كان لعبدالله ولد الشيخ دور كبير آخر في الحفاظ على أرض موريتانية أخرى، هي اليوم جزء عزيز من أرض الوطن.. تلك هي مدينة « عدل بكرو » الحالية في الحوض الشرقي. ففي مقابلة معه نشرتها إحدى الصحف قبل عدة أعوام، كشف الفقيد عن قصة لا يلعمها الكثيرون حول نشأة هذه المدينة؛ إذ كان في بداية الستينيات والياً للولاية الأولى (الحوض الشرقي)، فبلغه أن سريّة عسكرية ماليةً تقيم مند عدة أيام قرب « حاسي عدل بكرو » باعتباره « بئراً مالية »، فتحرك على الفور من النعمة باتجاه المكان المذكور، وهناك دعا القوات المالية لمغادرة المكان دون تأخير، لكنهم ردوا بالقول إنه لا سيادة لموريتانيا على المنطقة وإنهم باقون فيها، ومستمرون أيضاً في بناء مقر أحضروا المواد والمعدات اللازمة لإنشائه. عندئذ قرر عبدالله البقاء قبالة معسكرهم بالقريب منه، مع السائق والحرسي المرافقين له، ففرش إيليويشه وطلب إشعار والي ولاية « النوارة » أنه موجود في تلك النقطة بانتظار قدومه. وفي الوقت ذاته وجّه استدعاءً عاجلا عبر اللاسلكي إلى قوات الجمالة، بقيادة الملازم محمد محمود ولد الديه، طالباً منه التوجه إلى عدل بكرو، كما زوّد السلطات العليا في نواكشوط بمعلومات الموقف. وفي الأثناء تعمّد تمديد المفاوضات مع نظيره المالي المتمسك بعدل بكرو، في انتظار وصول قوات الجمالة الموريتانية. وبعد وصول هذه القوات في اليوم الثالث أو الرابع، وبعد إجراء اتصالات مكثفة بين نواكشوط وبامكو، وبعد ما اتضح للجانب المالي من صلابة في موقف الوالي الموريتاني.. لم تغرب شمس اليوم السادس على معركة « عض الأصابع » تلك، حتى سلّم الماليون بموريتانية عدل بكرو وقبلوا بتشكيل لجان فنية لترسيم الحدود، وفي الوقت نفسه كان جنود المعسكر المالي يحزمون أمتعتهم ويغادرون المكان دون رجعة. لكن عبدالله ولد الشيخ بقي هناك أياماً عديدة أخرى يراقب ويساعد في إنشاء أول مقر حكومي موريتاني في عدل بكرو، وكان مقراً للجمالة للحرس الوطني، أنشأ بعده مقراً مدرسياً ثم مقراً طبياً. وكان يتجول بين الأحياء البدوية في محيط المكان، يحثها على الاستقرار والتقري في عدل بكرو، حفاظاً عليه ضمن الحوزة الترابية ومنعاً للأطماع المالية من محاولة ضمه مجدداً. وبالفعل فقد توافد بعض البدو الرحل للاستقرار والتقري في عدل بكرو، وتكونت سوق للمواشي والبضائع أصبحت هي الأكثر نشاطاً وازدهاراً في الحوض الشرقي كله.

وقد ذكّرتني قصة إنشاء مدينة عدل بكرو بما ذكره لي أحد المسنين من سكانها عام 1989، حيث أشار بأصبعه إلى شجرة هناك قريبة من المقر الإداري للمدينة، قائلا : تحت هذه الشجرة خاطبَنا المختار ولد دداه ضحوة ذات يوم هنا (أعتقد أن زيارة المختار كانت في بداية الستينيات هي أيضاً، وكانت لاحقةً على معركة استرداد عدل بكرو)، فحثّنا على التقري وإلحاق أطفالنا بالمدرسة، وقال إن الشاحنات التي ترافقه بها كل ما تحتاجه المدارس وتلامذتها ومدرسوها من كراسي وسبورات وطباشير وأقلام ودفاتر وكتب وأغطية وملابس وعلاجات أولية. وخلال هذه الزيارة قرر المختار، ربما باقتراح من عبدالله ولد الشيخ، حفر سلسلة من الآبار بمحاذات حدودنا مع مالي في منطقتي « كوش » و« الظهر » ما تزال قائمة إلى الآن وتطلق عليها محلياً تسمية « آبار الشركة »، وقد ساهمت في الحفاظ على حدودنا، وربطت منمي المواشي بالأرض في هذه المنطقة. ولكم أن تتصوروا مشقة الرحلة في ذلك الوقت من نواكشوط إلى عدل بكرو.. لكنها العزيمة ذاتها التي تجعل عبدالله ولد الشيخ ولد أحمد محمود يهجر الراحة والنوم في معركة تثبيت السياة الوطنية على تيرس الغربية، وقبل ذلك يبيت ليالي ويظل أياماً في العراء مفاوضاً لا يملك أية أوراق قوة فعلية غير عزيمته القوية وضميره الوطني الحي، متشبثاً بالسيادة الموريتانية على عدل بكرو أيضاً، لا يتنازل عن شبر من أرضها ولو كلفه الأمر ما كلّفه.

محمد ولد المنى

المصدر