تشهد واحدة من أشهر وأقوى عصابات الجريمة المنظمة في العالم تغيراً تاريخياً غريباً، شكل صدمة لمتابعيها خاصة الشرطة التي تعودت على طريقة معينة في التعامل معها.
فبعد سنوات من العمل في الظلال، شهدت انقسامات وحروباً أهلية دموية فيما بينها، تبدو واحدة من جماعات الياكوزا التي تشكلت أبريل/نيسان 2017 وكأنها تحاول شرعنة نفسها.
بل وأكثر من ذلك؛ إذ تريد المنظمة التي تنتمي للعصابات الشهيرة أن تصبح “منظمة إنسانية” تحافظ على السلام وتقيد نشاطها الإجرامي ليقتصر على عمليات الاحتيال المعتمدة اجتماعياً بشكل ضمني، حسب تقرير لموقع ديلي بيست الأميركي.
وقد اعتمدت المجموعة الجديدة اسم “نينكيو ياماغوتشي غام”، والذي يترجم على نحو فضفاض إلى “ياماغوتشي غومي الإنسانية الشريفة”.
وللترويج لهذه التغييرات تجري الجماعة حملة علاقات عامة تشمل عقد مؤتمر صحفي وعدد من المقابلات الصحفية للمجلات.
حقائق غريبة عن الياكوزا
قبل أن تعرف كيف تنوي إحدى منظمات الياكوزا التحول للعمل الإنساني يجب أن تعلم أولاً ما هي الياكوزا.
“الياكوزا” أو المافيا اليابانية، هي إحدى أشهر المافيات العالمية ازدهاراً وتحقيقاً للغنى، فقد وصل دخلها في 2015 إلى أكثر من 80 مليار دولار، حسب تقرير لوكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك”.
وإذا لم تكن قد اتبعت سجلات المافيا اليابانية، أو ما تُعرَف اصطلاحاً بعصابات “الياكوزا” على مر السنوات، فأنت بحاجةٍ إلى أن تفهم أنها ليست مجتمعاتٍ سرية.
إذ تتواجد أقدم مجموعة ياكوزا يابانية منذ أكثر من 147 عاماً. ولم تشن الشرطة اليابانية أول حملة جادة لقمعها إلا في عام 1964، وها نحن ذا بعد 53 عاماً من ذلك..
ولاتزال الياكوزا جزءاً كبيراً من النسيج الاجتماعي الياباني. فهناك 22 منظمة تحت طائلة القانون ولكنها ليست محظورة. ولدى الياكوزا مبانٍ مكتبية. وبالإضافة إلى ذلك، تدرج وكالة الشرطة اليابانية العناوين واسم مدير كل منظمة على صفحتها على شبكة الإنترنت.
وتعد كل مجموعة ياكوزا بمثابة هيكل لعائلة يقتصر تكوينها على الذكور، مع رئيس يدعى “أويابن” وهو الممثل للأب، وعلاقات توطدت عبر طقوس الساكي (وهو أحد أنواع الخمور اليابانية التقليدية) لتوطيد الأواصر بين الأويابن وأطفاله (واسمهم الكوبن).
يحوز الأويابن السلطة المطلقة، وكما يقول المثل: “إذا قال الأويابن أن الغراب المار أبيض، فهو أبيض”. وداخل الأسرة هناك “الأخوة الأكبر سناً”، و”الأخوة الأصغر سناً”، و”أبناء العم”. ولا توجد إناث في الياكوزا داخل نطاق أي مجموعة كبرى، ذلك أن الأعضاء في معظمهم هم من المتحيِّزين جنسياً المعتلين اجتماعياً، حسب توصيف التقرير.
وتجني جماعات الياكوزا الجزء الأكبر من أموالها عن طريق الابتزاز، والاحتيال العقاري، والمقايضات الداخلية، والاقتراض غير المشروع، وإدارة أعمال الترفيه، والمخدرات، والقمار غير المشروع.
ويتمتَّعون بعلاقاتٍ سياسيةٍ قوية، بما في ذلك علاقات مع وزير التعليم الياباني السابق، وظهرت ادعاءات، نُفيَت في ما بعد، أن نائب رئيس اللجنة الأولمبية اليابانية قد سبق له التورط معهم. ومع ذلك، تقول ياماغوتشي غومي إنها تحظر ترويج المخدرات أو تعاطيها في ما بين أعضائها.
الإعلام يتابع أمجادهم!
من المفارقات أن كبار أعضاء الياكوزا يحملون بطاقات عمل، وتوفر مجلات المعجبين تغطيات لمآثرهم، فضلاً عن الكتب المُصوَّرة التي تُباع في المتاجر عن حياة الزعماء وصراعات العصابة.
أما بالنسبة لسلسلة ألعاب الفيديو التي أطلقتها سيجا، والتي تحمل اسم ريوغا غوتوكو (تعرف بسلسلة ياكوزا 1،2،3..إلخ في الغرب) فقد باعت ملايين النسخ.
وتقوم العصابات، التي لا تزال تدير العديد من وكالات المواهب اليابانية، بإعداد مقاطع فيديو خاصة بها لتوثيق تداول السلطة.
وأصدر تاداماسا غوتو، الذي وشى لمكتب التحقيقات الفيدرالي، سيرةً نصف ذاتية، كتاباً صرَّح فيه بكل شيء عام 2010 يُدعى هابا كارينا غارا (أعذروني ولكن..) وأصبح الكتاب الأعلى مبيعاً في اليابان. وشجَّعَ هذا العديد من زعماء ياكوزا الآخرين على اتباعه بنشر كتب مفصلة عن حياتهم في العصابات، إذ تميل الكتب لإلقاء الضوء على الضرر الذي أحدثه الزعماء للمجتمع والأفراد. حتى أن البعض، كما في حالة غوتو، قد استخدموا كتبهم لتبرير الضرر الذي أحدثوه، والاستمتاع به.
ويخشى عامة الناس الياكوزا، ولكن بالطبع هناك دوماً شيء من الافتتان، بل والإعجاب لدى البعض. يمكنك الآن شراء شارات بلاتينية للياكوزا، وأكواب شاي، ومناشف يد عبر مواقع المزاد في اليابان.
لماذا يهجرونها؟
ولكن في السنوات الأخيرة ترك عددٌ كبيرٌ من أفراد ياكوزا المجموعات، على الأقل رسمياً. وأُصدِرَت مراسيم جديدة مُرِّرَت في جميع أنحاء البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2011 جرَّمَت القيام بأعمالٍ مع جماعات الياكوزا أو الدفع لهم، مما يجعل من الصعب لكثير من أعضاء الجماعة أن يحصل على هاتف، أو حساب بنكي أو حتى يستأجر شقة. لذا انخفضت الأرقام الرسمية للأعضاء.
وكانت ياماغوتشي غومي، أكبر مجموعة إجرامية منظمة في اليابان، منخرطة في مجال الأعمال التجارية على مدار 100 عام، وفي 27 أغسطس/آب 2015، وهي السنة المئوية للمجموعة، انفصلت مجموعة من الرؤساء رفيعي المستوى عن المجموعة، بنية إنشاء مجموعة جديدة تدعى كوبي ياماغوتشي غومي .
وقد وفَّرَت الشرطة الأمان للجماعة المنشقة أثناء إقامتها بحفل الإطلاق.
وأدى الانقسام في نهاية المطاف إلى فترة من المعارك الدموية، واضطرت الشرطة إلى الاعتراف بأن هناك في الواقع حرب عصابات جارية. كانت هناك اغتيالات وحشية، وسيارات تصطدم بالمباني، ومعارك شوارع، حتى أن مقر ياماغوتشي غومي قد اضطر لإلغاء حفل الهالوين السنوي المقام للأطفال.
ولحسن الحظ، لم تقع إصابات بين المدنيين حتى الآن، وهو أحد الأسباب التي حثت الشرطة والجمهور كما يبدو على اعتبار حروب العصابات تلك بمثابة رياضة تستحق المشاهدة.
وتدريجياً بدأ “بحر الدم” ينضب. ولكن كانت هناك فيضانات جديدة من الكتب التي تدور حول الانقسام – 15 كتاباً على الأقل بحسب آخر إحصاء.
وفي أكتوبر/تشرين الثاني 2017، فتحت ياماغوتشي غومي أبوابها مرة أخرى أمام الأطفال الذين يعيشون بالقرب من مجمعهم في كوبي، سامحة لهم بممارسة أنشطة الهالوين سائلين الحلوى في أقنعتهم وأزيائهم المخيفة، تلك الأزياء التي لم يلبسها أفراد العصابة، إذ أنهم مخيفون بالفطرة كل يوم وطوال اليوم. كانت تلك علامة جيدة.
وتتمتَّع منظمة ياماغوتشي غومي على وجه الخصوص بتحالفاتٍ ودية مع 18 مجموعة ياكوزا أو أكثر، وتعقد لقاءات نصف سنوية، فضلاً عن غيرها من الفعاليات. ووفقاً لمصادر الشرطة، فعادةً ما يجلب زعماء المجموعات الأخرى في تلك الحفلات الصغيرة ما لا يقل عن 10 آلاف دولار نقداً، كدليل على الاحترام.
المحامون يحتجون وهذا ما لن يفعله رئيس الحكومة
حدثٌ سنويٌ آخر: كل عام تُنظِّم مجموعةٌ من المحامين مسيرةَ احتجاجٍ مناهضةٍ للياكوزا، مطالبين فيها الحكومة اليابانية بحظر ياكوزا بشكل مطلق بدلاً من السماح للجماعات بالتواجد.
احتج 190 محامياً أمام مقر ياماغوتشي غومي، ولكن يبدو من غير المُرجِّح أن يغير هذا أي شيء، ذلك أن رئيس وزراء الحكومة شينزو آبي غير جاد في التخلص منهم، ومع تورط محاسبيه السياسيين في علاقات عمل وثيقة بهم، تصبح لديه أسبابه الوجيهة لئلا يعكر صفو الأمور، وفقاً لما ورد في تقرير الديلي بيست.
وقد مررت الحكومة اليابانية قوانين تآمرية بغيضة تشكل خطراً على حرية الجميع. ولكن من غير المرجح للحكومة أن تكبح ياكوزا. حتى أن ياماغوتشي غومي كودو كاي أعدت دليلاً للتهرب من القوانين؛ وهو كتاب قراءته ذات أثر عظيم.
الزلزال
ما يزلزل حقاً عالم ياكوزا الآن هو تلك المجموعة الثالثة الناشئة عن تقسيم ياماغوتشي غومي، والتي تضم أعضاء من كل من ياماغوتشي غومي وكوبي ياماغوتشي غومي.
ففي 30 أبريل/نيسان 2017، عقد يوشينوري أودا، الذي كان عضواً سابقاً في جماعة كوبي ياماغوتشي غومي، مؤتمراً صحفياً -نعم مؤتمراً صحفياً- ليعلن انخراطه هو ومجموعة أخرى ممن يماثلونه في التفكير من الياكوزا في تشكيل مجموعة ياكوزا جديدة، والتي من شأنها الرقي لمستوى المبادئ التقليدية التي طرحها الأب الروحي للآباء الروحيين، كازو تاوكا (1913-1981).
ويعد تاوكا هو زعيم الجيل الثالث الأسطوري للمجموعة الذي أخبر تابعيه بأن “كل ياكوزا بحاجة إلى وظيفة شرعية أيضاً”.
كيف سيعودون لمبادئ الياكوزا الأصلية؟
وفي مقابلةٍ مع مجلة “فلاش” اليابانية المُتخصِّصَة في الإباحية والترفيه والأخبار الأسبوعية، قال أودا: “بعد الفقاعة الاقتصادية في اليابان، أصبحنا مجموعةً من البلطجية عبدة الأموال، حالنا بذلك ليس أفضل من المافيا الشائعة في جميع أنحاء العالم”.
وأضاف “تنخرط ياكوزا في عمليات احتيال تعرف باسم “أقرضني المال” (تتغذى على كبار السن) وأود أن أحملهم على التوقف عن تلك العمليات. فهذه هي الأمور التي حملت العامة على تلقيبنا بـ”القوى المعادية للمجتمع”. نريد الابتعاد عن الأنشطة المعادية للمجتمع وأن نستغل مواهبنا في الصالح، ربما في الأمن الخاص”. حتى أن المنظمة تقوم بإنشاء “دوريات سلام” لمنع جرائم الشوارع على أراضيها، تماماً مثلما كانت تفعل ياكوزا الأولى.
ويهدف تمرد نينكيو ياماغوتشي غومي في تحقيق الأهداف التالية:
1) من المتوقع من الجميع التمسك بالقواعد الأخلاقية التي وضعها زعيم الجيل الثالث.
2) بالإضافة إلى حظر السرقة والسطو وتداول المخدرات، فإنها سوف تحظر أيضاً الاحتيال، الذي هو الآن بمثابة مصدر تدفق الدخل الرئيسي لمعظم المجموعات.
3) الهيكل ليس هرمياً، بلا طبقات، وجميع المجموعات على قدم المساواة.
4) ليس هناك أويابون (المرشد الأعلى)، وأودا هو ممثل المجموعة، لا رئيسها.
5) لا تُشكِّل الروابط عن طريق حفل ساكي التقليدي.
6) يمكن للأعضاء الحصول على وظائف مشروعة ويُشجَّعون على القيام بذلك.
7) تضبط مستحقات الجمعية بوضوح على مبلغ ألف دولار شهرياً للمساعدين.
8) ليس لدى الجماعة علاقات رسمية مع مجموعات ياكوزا الأخرى، وبالتالي لا داعي للأموال اللازمة لـ”الدبلوماسية داخل جماعة ياكوزا”.
9) يُشجَّع الأعضاء على تقديم مساهمات اجتماعية إلى المنطقة التي يعيشون فيها.
ويقول أودا إنه يريد اقتلاع جذور العصابات الخارجة عن القانون، والتي تُعرف بـ “أنصاف الرمادي”، وكذلك الأجانب الخارجين عن القانون الذين ظهروا في الفراغ الأيسر بعد تلاشي الياكوزا، إذ ترغب منظمته في تحويل أفراد الياكوزا إلى أعضاء ذوي قيمة بالمجتمع.
كوريا
وكسر أودا عدداً من التابوهات في عالم الياكوزا من خلال ما يقترحه وتباهيه باتفاق ضمني طويل الأمد بين الشرطة وأفراد العصابات ينص على ألا يجري أعضاء الياكوزا النشطون أي مقابلات صحفية مع وسائل الإعلام السائدة.
ولكن أودا فعل أيضاً شيئاً آخر تسبب في صدمة عالم الرذيلة والإجرام.
ومن المعروف أن ما يصل إلى 20% من أعضاء الياكوزا من اليابانيين ذوي الأصول الكورية، وبعضهم انتهى بهم الحال في المنظمة بعد أن أصبح أفراد عائلاتهم عبيداً للإمبراطورية اليابانية. لكن هناك قليل من زعماء الياكوزا الذي سيتحدثون عن الأمر بصراحةٍ و أقل منهم سيتحدثون عن تجاربهم الشخصية كيابانيين كوريين.
ويُلقى باللوم على اليابانيين الكوريين خطأً في معظم الجرائم التي تقع في اليابان، بجانب المقيمين الأجانب. المفاجأة هنا أَن أودا اعترف بجذوره الكورية في مقابلة مُطولة مع الصحفي والخبير بأمور عصابات الياكوزا، إتسوشي ميزوغوتشي.
ويُعد أودا كورياً من الجيل الثالث وحينما سُئل لماذا يهتم بشأن النظام العام والسلام في اليابان، أجاب قائلاً: “كوريا مثل الأم التي ولدتني واليابان هي الأم التي ربتني؛ الأم التي تربي هي التي تهم”، وسرد رؤيته الجديدة للياكوزا لكل من يريد الاستماع.
لماذا يمكن أن يكون اعترافه بكوريته هو أخطر شيء فعله؟
ويُعد اعتراف أودا بأصوله الكورية خطوة جريئة ولكنها محفوفة بالمخاطر لعدة أسباب. غضت حكومة شينزو آبي الطرف عن ازدياد العنصرية اليابانية المناهضة للكوريين، بل وعينت شخصاً مؤيداً لمنظمة زايتوكوكاي المتطرفة (جماعة شديدة العداء تجاه الكوريين) للإشراف على قوات الشرطة اليابانية.
وكسرت عمدة طوكيو، يوريكو كويكي، التقاليد هذا العام ورفضت تقديم تعازيها للضحايا الكوريين الذين ذُبحوا على يد عصابات يابانية في أعقاب زلزال كانتو عام 1923.
وومن المرجح أن يؤدي اعتراف أودا بجذوره الكورية إلى حملات قمع جديدة.
وما زالت الشرطة اليابانية متشككة في الأهداف المزعومة لهذه المنظمة الجديدة ولديها الحق في ذلك، فهي ترفض تصنيفها كمنظمة جديدة ولكن تحاول تصنيفها كفرعٍ لمجموعة كوبي ياماغوتشي غومي، وإذا صنفتها كجماعة جديدة سيستغرق الأمر عدة أشهر لاعتمادها رسمياً وتطبيق كل القوانين ذات الصلة عليها.
آخر الثورات
وآخر الثورات التي أحدثها أودا وجنوده كانت في أزياء أعضاء الجماعة؛ إذ لن يكونوا مُلزمين بارتداء البدل السوداء لحضور الاجتماعات كباقي الياكوزا.
ويروي كاتب التقرير كيف رمقه أحد زعماء الياكوزا بنظرةٍ من أعلى لأسفل عندما كان يحاول محادثاته قائلا له باشمئزاز: “ألا تملك بدلةً حقيقيةً”، ويعلق الكاتب قائلاً “في الواقع لقد كنت أرتدي أجمل بدلة لديّ حينها”.
لذا فإن فكرة عقد اجتماعات -حيث يمكن لزعماء الياكوزا ارتداء الجينز والنظارات الشمسية والقمصان- تُعد غير مسبوقة.
ولكن بالنظر إلى كل الدماء والعنف الدائر تحت سطح انشقاق العصابة، لا يمكن معرفة متى سيتحول مفهوم حسن نية أودا الذي قدمه “للجمعة غير الرسمية” إلى “الجمعة الكارثية”، فاكتساب الشرعية لا يعني أن تكون مسالماً لا تسفك الدماء